في غزة، لا يطرق العيد الأبواب كما يفعل في المدن الأخرى. لا يحمل ضحكة الأطفال، ولا رائحة الخبز الطازج، ولا حتى بهجة الأضاحي التي كانت تُفرح القلوب قبل أن تُوزّع على المحتاجين. في غزة، العيد مجرّد تاريخ على التقويم، يمرّ كما تمرّ الغارات: بلا بهجة، بلا طمأنينة، بلا حياة.
لا مجال هناك للسؤال: ماذا تريد في العيد؟ فالأمنيات هُناك بسيطة وموجعة؛ رغيف خبز، شربة ماء، جرعة دواء، أو حتى فرصة للنوم في مأمن من القصف. الأطفال الذين لم يعرفوا يومًا طعم العيد، باتوا اليوم لا يعرفون حتى شكله.
تمضي غزة نحو عيد الأضحى هذا العام وسط كارثة إنسانية متصاعدة. الحصار يشتد، والمجاعة تقترب، والمساعدات لا تدخل إلا بشقّ الأنفاس. عشرات المستشفيات خارجة عن الخدمة، والأدوية مقطوعة، ومئات آلاف الأطفال بلا غذاء كافٍ. الأعياد، بالنسبة إليهم، مجرد مناسبة أخرى يعلّقون عليها جوعهم وألمهم.
على أطراف حيّ الشجاعية، جلس "آدم"، طفل في السابعة، ينظر إلى السماء الخالية من الطائرات للحظة نادرة، ويسأل جدّته: "هل سيزورنا العيد؟" تربّت على رأسه، وتهمس: "العيد يعرف دروبنا، لكنه يتأخّر دائمًا عنا." في بيوت أخرى، لا حديث عن ألعاب أو أثواب جديدة، بل عن فقدان الأحبة، وعن الخيام التي استبدلت الجدران، وعن وجع لا يدوّنه العيد في سجلّ أفراحه.
في غزة، تُذبح الطفولة كلّ يوم، ويُقدَّم الأبرياء قرابين لحربٍ لا تختار أهدافها. وبينما يحتفل العالم بالأضاحي، تحصي غزة أسماء أطفالها في دفاتر المنظمات الإنسانية. لا أكياس لحم هنا، بل أكياس دم، وأمهات ينتظرن أن تُعاد إليهن بقايا أولادهنّ.
ومع ذلك، لا تزال غزة تمارس عنادها الجميل. تحاول أن تبتسم بين الأنقاض، أن تخبز من الرماد ما يسدّ الرمق، وأن تحيا بالرغم من الحصار والموت والخذلان. الجيران يقتسمون ما تبقّى من طحين، والجدّات يخترعن أهازيج جديدة كي لا يشعر الأطفال أن العيد مكسورٌ على عتبة خيمة.
غزة لا تطلب المستحيل. لا تريد خرافًا ولا موائد عامرة، بل تطلب حياة عادية، وحقًّا طبيعيًا في أن يمرّ العيد كما يمرّ على بقيّة أطفال العالم. لا تُريد أن تتحوّل إلى عنوان دائم للمأساة، ولا أن تكون مرآة صامتة لتقاعس الضمير الإنساني.
في العيد، نحن نذبح تقرّبًا لله، أما في غزة، فالأطفال هم من تُذبح إنسانيتهم كلّ يوم، أمام أعين العالم، في طقوس صامتة من التجاهل المتعمّد. ومع ذلك، ما زال في غزة من ينتظر. لا ينتظر الأضحية، بل ينتظر أن يسمع صوته، أن تصل صورته، وأن يعرف العالم أن هناك عيدًا في مكان ما... ينتظر خبزًا بدل اللحم، وضحكةً بدل الصمت.














التعليقات