لم يكن مجد العرب يوماً من نسج الخيال، بل حقيقة أثبتها التاريخ وسجّلها العالم بإكبار. مجدٌ تشكّل حين كان العلم ركيزة الدولة، والعدل ميثاق الحكم، والرحمة عنواناً للتعامل الإنساني. في زمن كانت فيه مكتبة قرطبة تحتضن مئات الآلاف من الكتب، وتعجّ بغداد بمدارس الفكر والفلسفة، لم تكن النهضة حلماً بل واقعاً يعيشه الناس وتُترجم آثاره في العمران والمعرفة والازدهار.
اليوم، تتعثر مدارسنا بأبسط الأدوات، وتُهاجر العقول العربية إلى حيث تُحترم وتُقدَّر. إن الفارق بين الأمس واليوم لا يكمن في القدرات، بل في المبادئ التي صغنا بها مشروعنا الحضاري. ففي القرون الذهبية، لم يكن الخليفة فقط حاكماً، بل راعياً للعلم، يكافئ العلماء بوزن كتبهم ذهباً، ويحتضن المبدعين دون سؤال عن انتمائهم العرقي أو الديني. بيت الحكمة في بغداد كان أول منصة علمية عابرة للثقافات، تُرجمت فيه علوم الإغريق والفرس والهنود، وحوّلت الخلافة إلى منارة للعالم.
ما يحدث اليوم في بعض العواصم العربية، لا سيّما دبي، جدير بالتقدير، فهو نموذج فريد في التنمية السريعة والانفتاح على العصر. غير أنّ السؤال الأهم هو: هل نحن نُعيد إنتاج مظاهر التقدّم فحسب؟ أم أنّ هناك مشروعاً متكاملاً لبناء الإنسان العربي فكراً وروحاً، قبل أن نبني الأبراج والمراكز التجارية؟ ما نحتاج إليه ليس استيراد التكنولوجيا فقط، بل القدرة على إنتاجها؛ ليس الاكتفاء بجذب الكفاءات، بل تمكينها من الداخل، من داخل أوطانها وجامعاتها وشوارعها.
في حين أن دبي قدّمت تجربة عمرانية واقتصادية ناجحة، إلا أنّ التحدي الأهم يبقى في العمق الإنساني والثقافي. التنمية لا تكون مستدامة إلا حين تقترن بحرية البحث، بجودة التعليم، بخلق بيئة تسمح بالفكر النقدي والمبادرة. المجتمعات لا تنهض حين تستهلك فقط، بل حين تبتكر وتخترع وتضيف إلى الحضارة الإنسانية.
ولعلّ من أسباب إخفاق النهضة العربية الحديثة غياب الرؤية المتكاملة، لا غياب الإمكانات. نملك الثروات، لكننا نفتقر إلى إدارة عادلة لها. التعليم عندنا، في معظمه، لا يزال تقليدياً، يُكرّس الحفظ بدل التحليل، ويُخمد في الطالب روح التساؤل والتجريب. كيف ننتج علماء وروّاداً ونحن نحاصر عقول الأطفال في قوالب جامدة؟ كيف نطالب بالتقدّم، ونحن لا نزال نعيق الكفاءات بالواسطة، ونستبدل الموهبة بالولاء؟ لقد تمزّقت مجتمعاتنا بالتعصّب والانقسامات، ونسينا أن الأندلس بلغت مجدها حين عاشت الأديان جنباً إلى جنب في تسامح فريد.
النهضة القادمة، إن أردناها، لا تُبنى بالخطابات، بل بخطوات شجاعة وقرارات واثقة. نبدأ أولاً بالتعليم، نجعله مرناً، مواكباً للعصر، يدمج البرمجة والذكاء الاصطناعي والفلسفة في مناهجه، ويُطلق العنان للخيال والابتكار. نصنع مدارس تشبه ورشات التفكير لا سجون الحفظ. نحتفل بالعلم كما نحتفل بالرياضة والفن، ونؤسّس جوائز عربية للبحث والاختراع، على غرار "جائزة الخليفة للعلم"، لا تكرّم إلا من يضيء شمعة في الظلام.
ثم نُقيم العدل. لا نهضة من دون قضاء مستقل، وشفافية تحاصر الفساد، وسياسات توظّف الأجدر لا الأقرب. نحتاج إلى أنظمة تُعيد الثقة إلى المواطن، وتقول للشاب: مكانك محفوظ ما دمت تسعى وتعمل وتبدع.
كما نحتاج إلى إعادة إحياء روح التسامح، لا كترف فكري، بل كشرط وجود. حين نمنع خطاب الكراهية من الإعلام والمدارس، وحين نُقيم المهرجانات والمؤتمرات التي تجمع أبناء الأمة بمختلف أطيافهم، سنُعيد للهوية العربية وجهها الحضاري، الجامع لا المفرّق، المحاور لا المتعصّب.
وأخيراً، لا بد من تمكين الشباب. هم طاقة الأمة المهدورة. علينا أن نحميهم من التحوّل إلى جيل ضائع، وأن نمنحهم الفرص ليكونوا جيل الريادة. بتمويل مشاريعهم، بدعم أفكارهم، بإنشاء مدن علمية ومناطق حرّة للبحث والإبداع، كتلك التي بادرت إليها دبي تحت اسم "مدن محمد بن راشد للابتكار". عندها فقط، نستطيع أن نقول إننا بدأنا فعلاً نستعيد مجدنا، لا نرثيه.
ابن خلدون قال قديماً: "الدولة لا تُبنى إلا بالعدل". ونحن اليوم أمام مفترق طرق حقيقي. فإما أن نبقى أسرى ماضٍ نظل نردّد أمجاده كأنها تعوذة، أو نمتلك الجرأة لنصنع حاضراً مشرفاً، يليق بتراثنا ويؤسس لمستقبل أولادنا.
دبي أثبتت أن العرب قادرون على النهوض، لكن بناء الإنسان، لا ناطحات السحاب، هو التحدّي الأكبر. فلنبدأ من هناك... من العقل، من المدرسة، من القلب. فلعلّ من بغداد إلى دبي، تبدأ رحلة العودة إلى مجدٍ يستحق أن يُعاد.






















التعليقات