في زاوية مظلمة من الروح، حيث لا ضوء يمرّ ولا صوت يُسمع، يسكن كائن غريب اسمه "الفراغ العاطفي"؛ ليس جُرحًا يُرى، ولا ندبة تُلمس، بل هو فراغٌ شبيهٌ بثقبٍ أسود في الوجدان، يبتلع المعاني والألوان والموسيقى والضحكات وكل ما يشبه الحياة.

إنه ليس مجرد شعور عابر بالوحدة أو الحزن، بل حالة وجودية زاحفة، تُرخي سدولها على القلب والعقل، وتحوّل كل لحظة إلى صدى باهت لما كان ينبغي أن يكون؛ الملل المعمَّم، اللامبالاة، الاغتراب الاجتماعي، كلها ليست سوى تجليات لهذا العطب العاطفي الذي ينخر في جدران النفس بصمت.

الفراغ العاطفي لا يصرخ، بل يُهمس؛ لا يحطم الزجاج، بل يخلخل المعاني؛ تراه في العين التي تنظر كثيرًا ولا ترى، في الضحكة المعلّبة، في الإجابات الجاهزة، في العلاقات الباردة التي تشبه حركات آلية مكررة بلا روح.

علم النفس يُدرج هذا الفراغ ضمن أعراض اضطرابات متشابكة: كالاكتئاب الجزئي، وانعدام التلذذ، واضطراب الشخصية الحدية، وحتى حالات اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، لكنه يتجاوز التصنيفات الطبية إلى ما هو أعمق: إنه أزمة وجود.

وقد لا ينجم الفراغ العاطفي عن مرض بقدر ما يكون انعكاسًا لانفصال روحي عن الذات وعن العالم؛ فهو يولد أحيانًا من فقدٍ صادم: رحيل حبيب، وفاة، خيانة، أو حتى حلم كبير تساقط كأوراق الخريف أمام أعين صاحبه؛ لكنه في أحيانٍ أخرى، يتسلل خلسة من روتين الحياة اليومية، من العلاقات السطحية، من مجتمع يُشجع التبلّد باسم النضج، ويكبت العاطفة باسم العقل.

وهنا، في قلب هذه العزلة، تتشكّل الأسئلة الكبيرة:

من أنا حين لا يحبني أحد؟

ما معنى الحياة دون شغف؟

هل يمكن للفراغ أن يصبح هوية؟

في المجتمعات التي تفككت فيها الأسرة، وتحوّلت فيها الصداقة إلى متابعة رقمية، والحب إلى محادثة سريعة، يصبح الفراغ العاطفي ظاهرة جماعية أكثر من كونه حالة فردية؛ نحن أمام جيلٍ يعرف كثيرًا عن تقنيات الاتصال، ويجهل فنّ الإنصات؛ يتحدث كثيرًا، ولا يُصغي حقًا؛ يبحث عن "الونيس" في إشعارات التطبيقات، ويتوه عن ذاته في زحام الشاشات.

في بعض الثقافات، يُفسَّر هذا الفراغ ضمن أطر دينية أو فلسفية: بوذا يراه "نقطة انعدام"، صوفية الإسلام تتحدث عن "الخواء الذي يسبق الامتلاء"، وبعض فلاسفة الوجودية يرونه دعوة للتمرّد أو القلق الخلّاق؛ لكن في ثقافتنا المعاصرة، غالبًا ما يتم إنكاره أو قمعه، ما يجعل صاحبه أكثر عزلة واغترابًا.

إنَّ الحل ليس دواءً سريع المفعول، ولا وصفة نفسية جاهزة، بل رحلة طويلة تبدأ بمواجهة الذات، بامتلاك الشجاعة للاعتراف: "أنا لست بخير"، وبناء علاقات ذات معنى، واستعادة التوازن بين الحاجة إلى الحب والقدرة على منحه.

الفراغ العاطفي ليس ضعفًا، بل إنذار...

إنذار بأن الإنسان قد تحوّل إلى آلة، وأن القلب الذي خُلق ليشعر، بات يحيا على وضع الطيران.