في حين أن العراق الفيدرالي الجديد يستعد لإجراء انتخابات “برلمان الشعب” بدورته السادسة، يعيش المشهد السياسي حالة ترقّبٍ حذرة بعد إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تعيين مارك سافايا مستشاراً خاصاً له في العراق. خطوة بدت في ظاهرها ذات طابع استشاري، لكنها في عمقها أعادت إلى الأذهان سؤالاً ظل يلاحق العراقيين منذ أكثر من قرن: من يصنع الحاكم في العراق؟
هل يختاره الشعب عبر صناديق الاقتراع، أم يُعيَّن بقرارٍ يأتي من وراء الحدود؟
هذا السؤال ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لتاريخٍ طويل بدأ منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، حين رسمت بريطانيا ملامح “المملكة العراقية” على أنقاض الدولة العثمانية. في ذلك الوقت، لم يكن العراقيون هم من اختاروا شكل دولتهم ولا من يقودها، بل اختارت لندن الأمير فيصل بن الحسين – القادم من الحجاز والذي لم تطأ قدماه العراق من قبل – ليكون أول ملكٍ عليه. جرى استفتاء شكلي لتثبيت شرعيته، لكن نتائجه كانت محسومة مسبقاً، لتبدأ رحلة العراق بين حاكمٍ يُعيَّن من الخارج وشعبٍ يُستدعى فقط لتزكية القرار.
منذ تلك اللحظة، ظل سؤال الشرعية السياسية في العراق مفتوحاً: من يُعيّن الحاكم؟ هل هو الخارج الذي يصوغ ملامح الحكم بما يخدم مصالحه، أم الداخل الذي يُستبعد كلما حاول أن يصنع إرادته؟ فكل الأنظمة التي تعاقبت بعد 1921، سواء كانت ملكية أو جمهورية، لم تنبثق من إرادةٍ شعبيةٍ حقيقية، بل جاءت إما بانقلابٍ عسكري أو بتسويةٍ خارجية، بينما بقيت العلاقة بين الدولة والمجتمع معلقة على خيطٍ من الولاءات والتحالفات.
الثورات الشعبية، رغم زخمها، لم تنجح في كسر هذه الحلقة. ثورة العشرين التي انطلقت ضد الانتداب البريطاني انتهت بفرض الوصاية بدلاً من إسقاطها. وثورة 1958 التي رفعت شعار التحرر من التبعية تحولت لاحقاً إلى نظامٍ عسكري مركزي. أما انتفاضات 1991 و2019 فقد واجهت قمعاً داخلياً وتواطؤاً خارجياً، لتثبت أن إرادة الشارع العراقي كثيراً ما تُحاصر قبل أن تبلغ صناديق القرار.
وبعد عام 2003، دخل العراق مرحلة جديدة تحت عنوان “النظام الديمقراطي الفيدرالي”، وهو النموذج الذي صُمم – نظرياً – ليعالج إرث المركزية والاستبداد، لكنه في الواقع وُلد مشوهاً. فقد تم إقرار الفيدرالية في الدستور، غير أن السلطة بقيت مركزية في قراراتها ومجزأة في مصالحها، بينما تحولت الشراكة الوطنية إلى محاصصة طائفية وعرقية. فأصبح “الفيدرالي” اسماً بلا مضمون، و”الديمقراطي” شكلاً بلا ممارسة حقيقية.
ومع كل دورة انتخابية جديدة، يتكرر المشهد ذاته: صراع داخلي على المناصب، وتفاهمات خارجية تحدد مَن يُرشَّح ومَن يُستبعد، لتبقى السيادة العراقية أسيرة التوازن بين واشنطن وطهران أكثر مما هي انعكاسٌ لإرادة الناخبين.
وفي المقارنة مع تجارب إقليمية أخرى، لا يبدو العراق استثناءً، بل امتداداً لنمطٍ عربيٍ طويل حيث الحاكم يُصنع في الخارج ثم يُمنح غطاءً محلياً. كما حدث في إيران قبل الثورة حين كان الشاه يحكم بدعمٍ غربي مطلق، أو في مصر بعد 1952 حين تحوّل حلم التحرر إلى حكم الفرد. لكن خصوصية العراق تكمن في تركيبته المعقدة التي جعلت القوى الإقليمية تعتبره ساحة نفوذٍ لا دولة سيادة.
وإذا كانت بريطانيا قد اختارت أول ملكٍ للعراق قبل مئة عام، فإنّ واشنطن وطهران تتقاسمان اليوم أدواراً مشابهة في اختيار من يقود البلاد بعد كل انتخابات. تتبدل الوجوه وتختلف الشعارات، لكن آلية صناعة القرار تكاد تبقى كما هي: الخارج يُقرر، والداخل يُنفذ. وبين هذه الثنائية، يظل الشعب العراقي ينتظر اللحظة التي يُصنع فيها الحاكم بإرادته لا باسمه، ويُكتب فيها تاريخ العراق بيده لا بيد الآخرين.
وربما لم يُخلق العراق على يد شعبه، لكنه ما زال يملك فرصة أن يكتب مستقبله بنفسه، إن امتلك شجاعة أن يختار من يحكمه.












التعليقات