أجرى الحوار حكمت الحاج
&
&
في هذه الحلقة [الثالثة والأخيرة] من الحوار الذي أجريناه مع المحلل النفسي، والمفكر التونسي الذي يقوم بالتدريس في جامعة باريس السابعة، ورئيس تحرير مجلة "إنترسين" الفكرية الرصينة، وصاحب المؤلفات الكثيرة [بالفرنسية] نذكر منها: "تخييل الأصول" عن محنة سلمان رشدي وأدبه/ "فلق الصبح" عن التجربة المحمدية والسيرة النبوية من منظور جديد/ "الإسلام على محك التحليل النفسي"، وغيرها من المؤلفات العلمية المختصة، يتحدث إلينا الدكتور فتحي بن سلامة، عن ملابسات الراهن العربي وماضيه ومآلاته ومصائره، من وجهة نظر محلل نفسي ومفكر عربي غاص عميقا في أغوار تراثنا ، كما في ذاتنا المتلبسة بخيالاتها وتهويماتها وخوفها من التاريخ...
&
*&يتساءل الكثيرون، ونحن في حمأة المواجهة إن لم نقل الصراع، ما بين العرب والغرب، عن سر قوة الـ "الآخر" كما عن سر ضعفنا "نحن".. كيف نستطيع فهم ذلك؟
- العرب لا يدركون من أين أتت قوة الغرب. قد يبدو هذا الكلام غريبا لبداهته الشديدة. وببساطة أقول إن قوة الغرب جاءت أساسا من قابليته على انتقاد نفسه، توجيه النقد إلى نفسه، وليست متأتية من مظاهر عظمته المادية فقط. هذه القابلية على الانتقاد مكنت الغرب من مزيد من الواقعية، حيث أنتج فيها ما أنتج... العرب يتعاملون مع منتجات الغرب فحسب، ولا يتعاملون مع الفكر الذي ينتج تلك المنتجات... الغرب الآن في أوج افتتانه بقوته، وفي أوج غروره [إذ ثمة غرور واضح لا يمكن نكرانه أو حجبه] ولكنه مع ذلك لم يستطع العثور على الوسائل التي تمكنه من التواصل مع العالم العربسلامي، لأته بكل ببساطة، لا يعتبر إن للعرب والمسلمين وجود تاريخي فعال وفاعل.
&
*&مثّلت هجمات 11 أيلول سبتمبر في الغرب فاصلا للانتقال من عصر إلى عصر. هذا الشّعور الذي أعقب الحدث مباشرة ولّد جدلا واسعا حاول الكثيرون من خلاله قراءة هذا الانتقال وتعليله، وتبيّن الخطوط التي ينبئ بها. وقد قمت أنت كذلك بالكتابة حول هذا الموضوع، وما كلماتي هذه إلا اقتباس من مقال لك كان نشر في "اللوموند" الباريسية بمناسبة مرور عام على تلك الأحداث.. هل لذلك الشعور علاقة بحديثك أعلاه؟
- نعم، تماما.. ومن هنا كانت المفاجأة الكبرى، أعني، مفاجأة يوم الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001. ورغم إدراك الغرب تماما إن تلك العملية أو تلك الأحداث أو الاعتداءات أو سمّها ما شئت، هي شئ شاذ ومنفرد ولا يعطي أي انطباع عن حقيقة العرب والمسلمين في الوقت الحاضر، إلا إن الصدمة كانت أكبر من كل شئ. والذين خططوا ونفذوا لأحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول لم يحسبوا حساب رد الفعل الحقيقي الذي سيبديه الغرب.
&
*هل نستطيع القول بأننا نشهد الآن أو سنشهد ردود أفعال الغرب على تلك الأحداث؟
- في نفس المقال الذي أشرت إليه كتبت أقول: أنظروا نتيجة هذه الطّلعة المتهوّرة التي قام بها أولئك الذين أسميتهم "الشبح".. فكلّ القضايا اللّصيقة بقلوبنا تجري إلى موتها. وكما نرى الآن، فإن كثيرا من الشعوب هي التي بدأت تدفع الثمن.. الشّعب الفلسطينيّ، والشّعب الشّيشانيّ ومن ثم الشّعب العراقيّ ، سيدفعون الثّمن غاليا.. وكذلك معارضو الأنظمة المتسلّطة والفاسدة التي ضاعفت شراستها باسم مقاومة الإرهاب. فهناك درجة من الشّعور بالضّياع والخذلان لا يمكن معها أن نبقى على قيد الحياة إلاّ إذا لجأنا إلى الهذيان. ومرة أخرى أعطى العربُ والسلمون الغربَ الشرعية الكاملة لكي يريهم ما هي القوة، وكيف يتم استخدامها.
&
*&في الغرب، ربما يتهمون الممارسة السياسية عند العرب ونظرية الحكم عندهم، في سبيل وصف تصاعد موجة الرفض للغرب التي تصل حد العنف..
- وقد يتّهم بعضهم الدّين مرّة أخرى، مستعرضا صورة "المسلم" التّأليفيّة، مذكّرا بقابليّته للاستسلام إلى القدر وإلى قوى المخيّلة، وبعنفه الانفعاليّ، وباختصار : قد يعود بعضهم إلى محاكمة الإسلام باعتباره مصدر اغتراب. إنّ هذا الميل إلى اتّهام الإسلام يصل إلى درجة من الحمق الذي يعمي عن رؤية القوى المادّيّة والتّاريخيّة المتحكّمة في منزلة النّاس، بحيث أنّ الدّين لا يعدو أن يكون عنصرا في سلسلة متكاملة من السّببيّات (وهذا مفهوم فرويديّ). فعلا، يريد بعضهم أن يقنعنا بأنّ الدّين أمر مستقلّ، موجود خارج لعبة القوى الاقتصاديّة والعلاقات الاجتماعيّة والسّياسيّة والصّراعات من أجل السّلطة. ولا شكّ أنّ هذه الرّغبة في تعليل كلّ شيء بميتافيزيقا الإسلام تعود إلى نظريّة ميتافيزيقيّة للعالم.
&
* وفي المقابل، هنالك عندنا من يقول بضرورة تقديم صورة معدلة وأكثر تسامحا للإسلام... أعني في بعض العواصم العربية..
- في كلّ مكان ترتفع الأصوات المنادية بإصلاح إسلاميّ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر ضرورة تستدعي وقتا طويلا. ولكن توجد غاية أقرب إلى التّحقيق : ليعرف ذوو العقول النّيّرة من الغربيّين مع من تتحالف حكوماتهم.. ليفتحوا أعينهم على مصدر الخطر الذي يهدّدنا جميعا... وباختصار، لتكن الحرّيّة في العالم العربيّ القضيّة التي ندافع عنها دون مراوغات ميتافيزيقيّة. وعندئذ، لن يكون من العسير علينا& تجاوز ردود أفعال مهرّجي الإله الغاضب، الغربيون.
&
* يخشى البعض أن يكون الموقف من الغرب في العالم العربي والإسلامي قد أصبح متجذرا إلى درجة مخيفة، وإلاّ فبماذا نفسّر لجوء التّمرّد ضدّه إلى ما تسميه أنت بـ "لغة القداسة الهذيانيّة"؟
- ليكن الأمر واضحا: لا يوجد في التّراث الإسلاميّ أيّ تبرير للانتحار باعتباره فعلا حربيّا، وحركات التّحرير في هذا العالم لم تلجأ أبدا إلى هذا السّلاح في مقاومتها للاستعمار. ما نشهده الآن جديد جدّة الرّهيب الذي لا ذاكرة له. متى سنكفّ عن اللّجوء إلى أوّليّات علم النّفس الأخلاقيّ (الإهانة، الحقد، الخ..) لتفسير تحوّل الانتحار إلى سلاح سياسيّ، والحال أنّ إلغاء الأنظمة القاسية للمطامح السّياسيّة المشروعة هي التي تدفع هذه الذّوات إلى الفناء من أجل أن تعيد الاعتبار، في فعل جنونيّ أخير، لما ينقصها حتّى تشعر بالكرامة.
&
*&ألا يمكن أن نسمي تلك الأفعال المتضمنة في مدياتها القصوى فعل الانتحار، نوعا من الممانعة إزاء "التغريب" [نسبة إلى الغرب] الذي ربما يتعرض إليه العالم العربي تحديدا؟
- إنّ "تغريب العالم" الذي حصل مبدئيّا، يتحوّل إلى فاجعة في العالم العربيّ لأنّ حكاّمه لم يمنعوا انتفاع الشّعوب بثرواتها فحسب، بل منعوها كذلك من اللّغة التي تجعل كل ما هو واقعيّ ضمن هذا التّغريب، معقولا. هناك مؤشّر على هذا الأمر في التّقرير الأخير الصّادر عن صندوق الأمم المتّحدة الإنمائيّ : العالم العربيّ الذي كان في السّابق ناقلا للمعرفة اليونانيّة، لم يترجم طيلة القرون الخمسة الأخيرة (بما في ذلك الخمسين عاما من التّحديث المزعوم) إلاّ ما يقرب من عدد الكتب التي تترجمها أسبانيا في عام واحد! مؤشّر آخر: منذ ثلاث سنوات، عقد وزراء الثّقافة العرب مؤتمرا حول "الأمن الثّقافيّ" ! ولنترجم العبارة الأخيرة : إنتاج الجهل بخليط من الجهل والهويّة. ألم يبلغ هذا النّظام حدّا من التّهريج الجشع والباعث على الجنون لا يمكن أن يتصوّره العقل؟
&
*&ولكن، من جهة أخرى، وبعد كل الذي حدث، كيف ينظر الغرب إلى العرب؟
- الغرب ينظر إلى العرب على أنهم أناس يضعون ساقا في الواقع وساقا في الأبدية والأزل. بل وينظر إليهم على أنهم أناس لا يريدون دخول التاريخ والفعل فيه. لقد خرجنا كعرب من التاريخ في الوقت الذي كنا فيه نحن الذين نصنع التاريخ.
&
*&وما هو السبب في ذلك، إن كان من حقي أن أسأل عن أبسط الأسباب؟
- إن إيديولوجية "الهوية"، التي سبق الحديث فيها، هي التي حولت العرب إلى كائنات لا تقبل بالخسارة، بل وتريد الكمال. فالدخول إلى التاريخ هو قبول شئ من الخسارة. والعرب لم يحبوا إن يخسروا بعض الأشياء إلى درجة أنهم خسروا كل شئ.. لهذا نقولها بكل صراحة: لقد هزمنا.. نعم، ولكن يجب أن نقبل بذلك، ويجب أن نتفهم دروسنا من أجل العودة إلى حلبة التاريخ. خذ على سبيل المثال: ألمانيا، أو الغابون.. لقد قبلتا بالهزيمة. ولكنهما دخلتا التاريخ مرة أخرى. فمتى سندرك أنّ هذا الفضاء الواسع من القمع والحرمان& المسمّى بـ" العالم العربيّ" هو عرضة إلى تدمير صامت، تنظّمه آلات متعة بالسّلطة تنشر منذ عشرات السّنين& التّعتيم والتّفاهة وتصرّ على إعاقة الذّكاء والفهم في الفضاء العموميّ، وهي في كلّ ذلك تنتج أجيالا من النّساء والرّجال الأمّيّين عن عالمهم، الخاضعين له وكأنّه دوّامة من اللاّمعقول؟
&
*&أخيرا، أسألك هل من أمل يذكر في تغيير العلاقة ما بيننا وبين الغرب إلى ما هو أحسن وأنفع وأجدى للطرفين؟
- هناك آية في القرآن تقول انه "لا يبدل الله ما بقوم حتى يبدلوا ما بأنفسهم..." وأنا أعتبر إن هذه الآية معبرة جدا عما نتحدث فيه الآن. إذ لا نستطيع أن نبدل أو نغير العلاقة مع الغرب إذا لم نبدل أو نغير علاقاتنا مع أنفسنا. وبطبيعة الحال، فإن هذا لن يكون إلا بنقد الذات ووضع النفس على المحك. كما انه لن يكون إلا بعدم الاطمئنان إلى النفس.. هذه هي مشكلتنا الآن.. مشكلة العرب والمسلمين.. يجب أن نفهم أنفسنا وننتقدها.. وإلا، فإن الآتي أعظم.
&