الآنسة (شيرين) صحافية شابة تخرجت في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وتعمل لدى صحيفة تصدر بالانجليزية في مصر، وسافرت إلى عدة دول حول العالم، واطلعت على ثقافات الشرق والغرب، وهي أيضاً ابنة أسرة متحضرة ميسورة الحال، وتلقت أمها تعليماً فرنسياً وتعمل في سفارة أجنبية بالقاهرة، بينما يمتلك ويدير والدها شركة ناجحة، ورغم كل هذا فقد قررت (شيري) ارتداء الحجاب، وحتى هنا لا جديد في الأمر، فهذا أصبح سلوكاً شائعاً في مصر وبين كافة الأوساط، حتى أصبح ينظر لغير المحجبة بقدر كبير من الشك والريبة، وكثيراً ما تواجه دعوات آمرة بارتداء الحجاب، سواء في محيطها الاجتماعي أو في جامعتها أو عملها، أو حتى داخل مترو الأنفاق الذي تحول إلى ساحة تحريض مسكوت أو مرضي عنه.
المثير أن تحولاً هائلاً جرى للآنسة (شيري) فقد أصبحت أكثر تجهماً وأقل إقبالاً على الحياة، والأخطر أنها صارت تتبنى quot;نظرية المؤامرةquot; في كل شئ تقريباً، وأمست مقتنعة لحد لا يحتمل المناقشة بأن اليهود ارتكبوا هجمات 11 سبتمبر، وهم أيضاً وراء تفجيرات سيناء، ولندن ومدريد، وربما ثقب الأوزون أيضاً .

......
كنت التقيت (شيري) عقب تفجيرات سيناء، كما يحدث بفعاليات يجمعنا فيها العمل، وساخرة مني سألتني عن أحوال quot;جماعة واشنطنquot;، تقصد خالتي quot;كونديquot;، وقرة عيني رامسفيلد، وقد طمأنتها عليهم، أنهم باقون خمس سنوات، وللمرة الأولى أتعرض لما تصفه الأمم المتحضرة بالتحرش، إذ جذبتني الآنسة من يدي بينما كنا نتجول بين أسّرة المصابين داخل المستشفى، حتى كدت أن أنكفئ على وجهي من فرط عنف الآنسة، وهي تنظر صوبي شذراً، لدرجة خشيت معها أن تصفعني على وجهي، فحافظت على مسافة مناسبة بيننا، ورحت أستمع بامتثال لراويتها التي طرحتها بكل ما تملك من قوة ورباط الخيل، وهي تطلق نظرات quot;حارقة خارقةquot; بينما ارتفع صوتها مزمجراً حتى انتقل من شريحة الآنسات لفئة quot;الدفع الرباعيquot;.
أكدت الآنسة بثقة ويقين أن أصابع إسرائيلية ـ أميركية وراء تفجيرات سيناء، وأن الهدف منها واضح كالشمس وهو محاصرة دور مصر الإقليمي ودفعها لدخول تحالف واشنطن لمحاربة المسلمين والعرب، وقبل أن ألفت انتباهها إلى وجود ضحايا إسرائيليين وأميركيين في تلك التفجيرات، أمسكت الزميلة زمام المبادرة وانبرت قائلة: إن وجود هؤلاء الضحايا يأتي في إطار quot;أصول اللعبةquot; ولوازم حبكتها، حتى تنطلي على السذج وأعداء الأمة أمثالي.

......
وكما تقول العرب العاربة، فقد أسقط في يدي ولم أجد سبيلاً لاختراق هذه quot;الأيدلوجيا المحكمة البناءquot;، فلسنا هنا بصدد حوار بل هي حرب أفكار حقيقية، فالزميلة وضعت نسقاً فكرياً شديد الصرامة، يتمترس خلف قناعات عقدية تصعب مناقشتها، وهو ما يجعل إيثار السلامة الحل الأكثر حكمة للتعامل مع هكذا مواقف، يضطر فيها المرء لمناقشة مأزومين.
ودون ادعاء زائف للحكمة والموضوعية أجدني مضطراً لالتماس ألف عذر للزميلة (شيري) فهي ضحية الإلحاح اليومي الذي يحرض على الكراهية ويراكم طبقات الإحباط، لهذا لايصح اتهام فتاة في العشرينات وترك الجناة الحقيقيين في السلطة والإعلام والمنابر، ناهيك عن تجار الأوطان والأديان من وكلاء الأرض والسماء.
وتعالوا نقضي يوماً مع تلفزيون الحكومة المصرية بقنواته العشرين، وهي تتغنى بالمقاومة العراقية، ويكاد المرء يرى شماتة المذيعين وهم يتحدثون عن ذبح رهينة كالخراف، وحتى حين يفر المرء للفضائيات يجد أصحابنا quot;إياهمquot; يتحدثون عن شهداء المقاومة العراقية الباسلة، واستشهاد فلسطيني من جماعة القط الأسود (ايفرريدي) أثناء تفجير مقهى.
ويحدث يومياً في برامج تلفزيونية أن يستهل quot;المفكر العربي الشهيرquot; حديثه بالتأكيد على أنه ليس مغرماً بنظرية المؤامرة، لكن سرعان ما يبدأ رسم مؤامرته الخاصة وهي عادة ما تكون مبتكرة ومثيرة فيتحدث بثقة العارف ببواطن الأمور عن مخططات الغرب لمحو الإسلام والتآمر على العرب، كأن هؤلاء أقوياء لدرجة يرتعد منها الغرب، بل ويذهب quot;سي المفكرquot; لمرحلة تسويق الإرهاب بوصفه quot;أسلوباً مشروعاً لردع الغرب الذي ينتهك خصوصيتنا حماها الله، أو يفرض الإصلاح من الخارجquot;، وتصر الفضائيات والصحف على quot;قوائم جاهزةquot; تشبه quot;كشوف البركةquot; لهؤلاء الاستراتيجيين مروجي المؤامرات، ومخدري الشعوب.

......
أما إذا قادت المرء مصادفة حمقاء إلى دهاليز quot;الويبquot;، فإنه سيطالع ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر ببال بشر، من شتائم وسخائم وتحريض علني قد يصل إلى حد التدريب على استخدام الأسلحة وصناعة المتفجرات، وعبر غرف الدردشة يجد المرء نفسه في مواجهة quot;أبو القعقاعquot; وquot;أبو الهيجاءquot; وبقية مجلس الآباء الذين يتغزلون في quot;مجدد الإسلام، وإمام الزمانquot; أسامة بن لادن وأركان حربه الظواهري.
وإذا كانت الإنترنت قد خرجت من قبضة الأنظمة، وفرضت وجودها كإحدى أهم وسائل الاتصال، فإن الشبكة لم تكن سوى مرآة تعكس واقعاً شديد العبثية، يعتلي فيه الساسة مطية الدين لتبرير بقائهم وتمرير فسادهم واستبدادهم، كما فعل صدام حسين بعد quot;أم المعاركquot; حين كتب بخط يده عبارة quot;الله أكبرquot; على العلم العراقي، وكما تصدى صفوت (الشريف) أمين عام الحزب الوطني الحاكم في مصر، لإخراج مسرحية هزلية، حشد فيها آلاف الكومبارس من الموظفين والعمال والمعارضين quot;الحكوميينquot; والفنانين الحكوميين أيضاً في quot;مسيرة شعبيةquot; تندد بأميركا التي تمنح حكومة الحزب ملايين الدولارات كمعونات سنوية .
ووسط هذا التحريض الحكومي والاحتفاء بالإرهابيين وتأجيج المشاعر المحتقنة أساساً بفعل البطالة وانعدام تكافؤ الفرص وشيوع الفساد، يثور سؤال منطقي: لماذا لم نتوقع أن يذهب هؤلاء الشباب بعيداً، ويأخذهم الغضب غير الرشيد لحد تفجير أنفسهم كما حدث في سيناء؟
[email protected]