عندما تعترف الآنسة كوندوليزا رايس بارتكاب الإدارة الأمريكية لآلاف الأخطاء في العراق، فإنها تكون قد جهلت أو تجاهلت آلاف الخطايا - وليس مجرد الأخطاء ndash; ارتكبتها الإدارة الأمريكية في حق منطقة الشرق الكبير بأسرها، بداية من رعاية واحتضان أنظمة الاستبداد وأنظمة استزراع وتصنيع الإرهاب والإرهابيين بالمنطقة، وليس انتهاء برعاية الإرهابيين رعاية مباشرة، خلال استخدامها لهم لمقاومة المد الشيوعي في أفغانستان وغيرها، لكننا لا نزمع في هذه السطور الحديث عن الماضي، الذي افتضح حمق السياسة الأمريكية خلاله، بعد أن دفع الشعب الأمريكي والإنسانية الثمن غالياً في تفجيرات نيويورك وغيرها من عواصم.
نتحدث في هذه السطور عن الحاضر، والمشروع الأمريكي للتحديث، والذي تشير تطبيقاته الأولى إلى أنه سيقود المنطقة لكارثة، ليس من قبيل المبالغة أن نتخوف من أن تؤدي إلى إغراق المنطقة والعالم كله في بحور من الدماء والفوضى.

جاء يكحلها عماها
سننحي مؤقتاً قضية العراق (لوضعيته الخاصة التي نتصور صعوبة تكرارها)، لنركز على ما يجري في التجربة الديموقراطية الفلسطينية برعاية أمريكية غربية، والتي أوصلت فلسطين إلى طريق مظلم ومسدود، لا نرى بعده إلا الفوضى العارمة المدمرة، وليس الفوضى الخلاقة التي بشرتنا بها رسول الحضارة والتحديث الآنسة كوندوليزا رايس!!
لسنا بالطبع ممن يحترفون نسبة فشلهم أو خطاياهم للآخرين أو بالتحديد لعدوهم الأيديولوجي، سواء الذين يفعلون هذا للدفاع والتعمية عن المجرمين الحقيقيين، أو الذين يدمنون هذا استسهالاً وقعوداً عن الفكر والعمل المخلص والجاد، ولكي نكون أكثر تحديداً ووضوحاً، فإننا نقر أن المنطقة وشعوبها ونظمها هي المسئولة بالكامل عن كل البلايا والنكبات التي تعانيها، ويعانيها من جرائها العالم المتحضر كله، لكن مقاربتنا هذه تنطلق من محاسبة القوى المتحضرة التي تتدخل بدافع الإصلاح، فإذا بها تفسد الأمر عليها وعلينا، بحيث ينطبق عليها المثل الشعبي: quot;جاء يكحلها عماهاquot;، نحن إذن في مجال محاسبة الطبيب على أدائه، وليس تبكيت المريض على مرضه.

الهاوية نقطة بداية
تصلح الحالة الفلسطينية، بتجربتها الديموقراطية وما آلت إليه الأمور، لأن تكون نموذجاً لما يحدث وما يمكن أن يحدث في المستقبل في كثير ndash; إن لم يكن كل ndash; ما يسمى بالعالم العربي، وإذا بدأنا بالتشابه المعني في الملامح الرئيسة والملحة نجد ما يلي:
middot; أزمة سياسية تتمثل في لاديموقراطية النظام، وعدم كفاءة مؤسساته في أداء المهام الموكلة إليها.
middot; فساد يستشري في مؤسسات النظام والمجتمع، يترتب عليه ليس فقط نهب الثروات، وإنما إجهاض أي محاولة لتنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية.
middot; تدهور الحالة الحضارية للمجتمع باختلاف عناصرها، إلى حد أن المنطقة تعيش بالفعل خارج العصر، ومتخلفة بقرون تتكاثر بمرور الأيام والشهور وليس السنين.
middot; أزمة اقتصادية تتمثل بالأساس في الخلل بين الإنتاج والاستهلاك، وما يترتب عليه من اعتماد على المعونات الخارجية، مع اختلاف درجة الاعتماد من حالة إلى أخرى، لكن الحالة الفلسطينية هي الحالة الأكثر تفاقماً.
middot; أزمة إلى حد الاقتتال مع آخر، وصل إلى تدويل الأمر، وقد يكون الآخر دولة كحالة فلسطين / إسرائيل، وسوريا/ إسرائيل، ولبنان/ سوريا، وقد يكون الآخر ضمن مكونات ذات الكيان، كحالة السودان/ دارفور، والمغرب/ البوليزاريو، والعراق/ الأكراد- الشيعة، في عهد ما قبل تحرير العراق.
middot; أزمة صراع داخلي بين مكونات ذات الكيان، مازال محصوراً في النطاق الداخلي، لكنه يثقل بوطأته على حياة المجتمع وفرص نموه وتقدمه، ويجعل الأمر أشبه بأن تلقي بإنسان في البحر طالباً منه السباحة وهو مكبل الذراعين والقدمين، بل ومثقل بأحجار ينوء بها كاهله، وهذا نجده في العراق ولبنان في صراع الطوائف، وفي سائر العالم العربي في مشاكل الأقليات، والحالة الأكثر سوءاً وفجاجة في فلسطين في فوضى الفصائل المسلحة المتنافسة المتطاحنة، بتأثيراتها المدمرة داخلياً وخارجياً.
middot; أزمة فقدان الاستقلال الوطني ببعده الحقيقي وليس الظاهري، فاحتلال قوات التحالف للعراق، والاحتلال الإسرائيلي للضفة وقطاع غزة، هو عامل مساعد لنجاح محاولات التحديث وليس العكس، لكن التيارات المعاكسة للإصلاح تأتي من فقدان الاستقلال الوطني الناجم عن تدخلات مباشرة وغير مباشرة من منظمات ونظم الاستبداد والإرهاب بالمنطقة، والتي تسارع بالتكاتف ndash; رغم تناقضاتها فيما بينها ndash; لوأد محاولات التقدم في أي بقعة من المنطقة، وهذا واضح في العراق، وأكثر منه وضوحاً في لبنان، وفي المقدمة فلسطين، التي تعبث فيها جميع الأيادي، وتصب فيها من جميع الاتجاهات الدولارات والمتفجرات وأيديولوجيات الكراهية والعنف، كل يغني على ليلاه، وكل يحارب معاركه، على تلك الأرض التي يتشدقون بأنها مقدسة!!
middot; استشراء أيديولوجيات الكراهية والعنف والتعصب الديني ورفض الآخر بجميع دوائره، والرواج الشعبي لهذه الأفكار (أياً كانت الأسباب)، إلى الحد الذي أصبحت فيه المجتمعات العربية هي معقل إنتاج الإرهابيين، الذين يهددون الأمن على مستوى العالم، وليس على مستوى المنطقة وحدها.
middot; انعدام أو هزال قوى التحديث والليبرالية في المنطقة، وانحصارها في مجرد دعوات فردية لرموز فكرية معزولة عن القاعدة الشعبية، لغرابة ومخالفة خطابها لمعظم السائد وشبه المقدس لدى الجماهير، علاوة على استبعادها - وفي أحسن الأحوال تهميشها ndash; في وسائل الإعلام المختلفة، والتي يسيطر عليها إما النظم الحاكمة، التي تخشى أول ما تخشى دعوات الحداثة والليبرالية، أو تسيطر عليها فلول الفاشية العروبية التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، لصالح دعوات السلفية الظلامية وخطاب الكراهية والتحريض، الذي صار وسيلة جميع وسائل الإعلام للرواج والجماهيرية، وفي مقدمتها القنوات التليفزيونية الفضائية، صاحبة التأثير الجماهيري الأعظم، في محيط الأمية الغالبة، ولم لا وقد صار هذا التوجه هو الطريق الوحيد لجلب التمويل المالي، سواء عبر الإعلانات أو عبر المنظمات والنظم صاحبة المصلحة؟
middot; أزمة الضغوط العالمية، التي حتمتها العولمة وتصدير المنطقة للإرهاب، والتي تدفع بإلحاح نحو التغيير السريع، في مقابل مقاومة داخلية شرسة، تتمثل في القوى صاحبة المصالح في بقاء الوضع على ما هو عليه (كالحكام وحوارييهم)، والقوى الرافضة لنوعية التغيير المطلوب (القوى السلفية والعروبية التي تدفع باتجاه التقهقر إلى قيم الماضي البعيد أو القريب)، بالإضافة إلى قوى القصور الذاتي، التي تمثلها الجماهير العريضة، التي إن تحركت نحو تغيير أفكارها وقيمها وعاداتها فببطء شديد.

تجربة ديموقراطية بائسة
إذا كانت البرجماتية هي عماد الفكر الأمريكي، ويمكن ولو ببعض التجاوز القول بأن أمريكا هي التي صدرتها للعالم، تلك الفلسفة التي تحكم على صحة القضية من خلال صلاحية النتائج المترتبة على تطبيقها، بغض النظر عن الحيثيات والمقدمات القبلية، التي تم عن طريقها استنتاج المقولات محل النظر، وإذا كان تطبيق آلية الاحتكام إلى التصويت الشعبي عبر صناديق الاقتراع، المنتسبة إلى التطبيق الديموقراطي، في أرض فلسطين، قد أثمر ما نراه من انتخاب منظمة حماس الإرهابية، لتكون ممثلاً للشعب الفلسطيني، وما ترتب على ذلك من تكاتف جميع الدول لحصار هذه الحكومة ومعها الشعب الضحية، فإن هذا يحتم منطقياً على الأقل أن نحكم بأن ما حدث من تطبيق يسمى بالديموقراطي، وما يمثله من توجه غربي لدفع الأمور بالمنطقة على ذات النهج، هو توجه فاسد وبائس.
لا يمكن أن نتوقف عند ذلك الحد، إذا كنا نؤمن بالديموقراطية وجدواها، فعلينا أن نتبين مكمن الخطأ فيما حدث:
من المعروف أن تطبيق فكرة صحيحة على أرض الواقع، يحتاج إلى شروط محددة يلزم توافرها، لتتاح للفكرة محل التطبيق مجالاً صحيحاً وصحياً، يسمح بالاختبار الجدي لصلاحيتها، وهذا عين ما لم يتوفر في الحالة الفلسطينية:

*آلية اللجوء إلى صناديق الاقتراع ليست في حد ذاتها هي الديموقراطية، فالديموقراطية هي توصيف سياسي لحالة ثقافية واجتماعية واقتصادية تسمى الحالة الليبرالية، وبدون توفر الشروط الضرورية للمجتمع الليبرالي، تفقد آلية اللجوء لصناديق الاقتراع معناها الأصيل، كما تفقد إمكانية تحقيق ما نصبو إليه، وما نعقده عليها من آمال في التحديث، بل وتصبح آلية حسابية يمكن أن تستخدم بواسطة أبشع النظم، لإنتاج أبشع النتائج، فالمجاهد الزرقاوي مثلاً يمكن أن يستخدمها مع مجلس شورى المجاهدين، لتقرير إلى أي المدن العراقية عليه أن يرسل فتيانه المتمنطقين بالأحزمة الناسفة، ويمكن أن يستخدمها النظام الحاكم في السودان لتقرير هل يذبح أهل دارفور أم يطردهم إلى خارج الحدود.
من الواضح أن المجتمع الفلسطيني قبل وبعد انتخابات المجلس التشريعي، أبعد من أن يمت بأدنى صلة للوصف بالليبرالية.

*الانتخابات عملية اختيار من بين بدائل مطروحة، ومن العبث أن نتوقع لنتائجها أن تأتي لنا بجديد غير مطروح بالأساس في الساحة، فماذا كان أمام الناخب الفلسطيني على مائدة الخيارات؟:
كان أمامه حماس، المنظمة الإرهابية التي تقدم له بعض الخدمات الاجتماعية والصحية والاقتصادية، في مقابل أن تجند أطفاله وفتيانه ليكونوا قنابل وألغام بشرية تفتك بالأبرياء وبالبراءة، في مقابل منظمة فتح، التي تمارس نفس الأعمال الإرهابية، وفوقها فساد مالي وإداري وخطاب سياسي مراوغ بألف وجه ووجه، ماذا كان هناك أيضاً على الساحة الفلسطينية غير الجهاد الأسوأ من الجميع، وفسيفساء فصائلية مسلحة، يغلب عليها أداء قطاع الطرق، فيما خلت الساحة تماماً من أي قوى ذات اعتبار، تدعو بقوة ووضوح للسلام والحضارة والتحديث، مع تقدير ممزوج بالعطف على بعض رموز فلسطينية مستنيرة، تهمس في خجل وخوف ببعض عبارات متحضرة، تسارع فتعقبها بعبارات حنجورية نمطية، خوفاً من أن تتعرض للاغتيال، قبل أن تكمل حديثها.

*يستلزم لنجاح عملية الاقتراع أيضاً إدراك الشعب لطبيعة مبدأ حرية القرار، إدراك ما يترتب على حريتك في أن تختار ما ومن تشاء، فالوجه الآخر من الحرية هو المسئولية، إنك عندها ستكون مسئولاً عما يترتب على اختيارك الحر، فإن اخترت القتل والقتلة، فعليك أن تكون مستعداً للمطاردة حتى تودع حيث تلقى جزاءك، وإن اخترت البناء والبنائين، فسوف تجني ثماراً من ذات النوعية.
لا يكفي لتوفير هذا الشرط أن تصدر إسرائيل وأمريكا بضعة تصريحات قبيل الانتخابات، عن رفضها للتعاون مع حكومة تشارك فيها حماس، فلكي يتوفر هذا الشرط حقيقة، يحتاج الأمر لنشر الوعي بين البسطاء بطبيعة مناخ الحرية، المرتبط عضوياً بالمسئولية عما يترتب على ممارسة الاختيار الحر، ونشر الوعي هذا لا يتم بين عشية وضحاها، بل يتم ببطء وعلى مهل، بداية بالممارسات اليومية العادية للإنسان الفرد، صعوداً إلى ما هو أهم وأخطر، لينتهي أخيراً باختيار نظام الحكم.
يمكن ولو على سبيل المجاز تصور مفهوم الفلسطينيين والعرب جميعاً، لما ينبغي أن يترتب على الاختيار الحر للشعب الفلسطيني، وقبول العالم الغربي به، أنه إذا ما اختار الشعب القتلة وتوجهاتهم، فإن على الغرب خضوعاً لمبادئ الديموقراطية أن يستمروا في ضخ الدولارات لحماس، لتحول الشعب الفلسطيني كله إلى قنابل بشرية، بل ويقتضي الخضوع للديموقراطية أيضاً أن يعد الإسرائيليون حقائبهم للرحيل عن فلسطين من البحر إلى النهر، ولا بأس أن يعد أعداد منهم أعناقهم للذبح بصفتهم يهوداً أعداء الله، فأي مقاومة اقتصادية أو سياسية أو عسكرية لحماس المختارة ديموقراطياً من الشعب الفلسطيني، يعد تنكراً للديموقراطية التي صدعنا الغرب بالحديث عنها!!

*يلزم لأي فرد يتقدم لشغل وظيفة أن يقدم بعض المستندات الضرورية، والتي بدونها لا يدرج اسمه في عداد المتنافسين على شغلها، وأول هذه المستندات شهادة حسن سير وسلوك، وصحيفة الحالة الجنائية، والمؤهلات الدراسية، والخبرات السابقة في المجال، تطلب هذه المستندات جميعها مهما كانت بساطة الوظيفة أو حتى تفاهتها، أما في قوائم المتنافسين على وظيفة ممثل الشعب الفلسطيني في المجلس التشريعي، فلقد أدرجت أسماء أعضاء حماس، وكثيرون من فتح وغيرها، فيما تقول مستنداتهم:
حسن السير والسلوك: سيئ في جميع المجالات.
صحيفة الحالة الجنائية: قاتل أو محرض على القتل.
المؤهلات الدراسية: جاهل فيما يتعلق بالمجال.
الخبرات السابقة: لا شيء أو خبرات فاشلة.
أي عملية اختيار من بين مثل هؤلاء المتقدمين، هي عملية فاشلة ومهزلة، سواء كانت عملية الاختيار ديموقراطية أم غير ديموقراطية.

الصعود للهاوية
نصل الآن إلى النتيجة التي نعرفها جميعاً، فهل يمكن أن يقال عنها أن سلبيات التطبيق الديموقراطي لا يعالجها إلا المزيد من الديموقراطية؟
نقول أن القول صحيح ينطلق من أرضية فاسدة، وهو بهذا لا يمكن أن يؤدي إلا إلى المزيد من الفساد، فهذا التوصيف يكون صحيحاً لو توافرت الشروط اللازمة للتطبيق الديموقراطي بحدها الأدنى، فعندها فقط يمكن الارتكان إلى تعميق الديموقراطية وتصحيحها لنفسها.
لقد دفعت الإدارة الأمريكية الشعب الفلسطيني إلى ورطة ما بعدها ورطة، ثم تقوم بمحاصرة حماس، فيما المحاصر الحقيقي هو الشعب المسكين، فرموز حماس لن يضيرهم شيء، وسيظلون يتقافزون على جميع الأغصان، مرددين تصريحاتهم ووعيدهم الأسود، حاملين حقائب مترعة بالدولارات، يدسونها في الحسابات السرية، أو تسرق منهم في الفنادق دون أن يجرؤا على إبلاغ البوليس، كما حدث أخيراً مع كبيرهم في دولة عربية، ليبقى الشعب الفلسطيني يرزح تحت نير عناصر الجهل والجهالة الداخلية، وفوقها توجيهات من قوى عظمى، تمتلك المؤسسات ومراكز البحوث، التي من المفترض أن تتيح لها تقييم الأمور تقييماً صحيحاً، لكنها على العكس، ترتكب أفظع الجرائم في حق نفسها وفي حق شعوب المنطقة، وفي حق الإنسانية جمعاء.

[email protected]