عنزة ولو طارت. هذا هو منطق حماس في مقاربتها للسياسة. كل العالم تكأكأ علينا، وها هو شهر ونصف الشهر يمضيان، دون أن يستلم الموظفون رواتبهم. خمسون يوماً مرشحة للمزيد، ومفتوحة على كل الاحتمالات. وما من أمل في القادم. بل ما من عزاء. تجلس مع السياسي المعارض، وتسأله الحلّ، فلا يشير عليك إلا بالانتظار، عسى تحدث المعجزة ! وتجلس مع وزير، وتسأله الحلّ، فيغمغم ويقول لك بأن الحل سيأتي فقط من عند الله ! فالله حلاّل المشاكل، وأبداً لن يخذل هذا الشعب المرابط الصابر. أي باختصار، السياسي المعارض للسلطة، والسياسي الداخل في لعبتها، كلاهما حائران وعاجزان عن التفكير المنطقي، وكلاهما أحالا المشكلة، إلى فضاءات غير بشرية لا تجدي نفعاً ولا تطعم جائعاً، ولا تفي بمتطلّبات طفل من حليب، أو موظف يجد صعوبة بالغة في توفير ثمن المواصلات. إن أكثر من مليون فلسطيني، يعيشون على الراتب الشهري. فهل تجدي معهم لغة غير واقعية، ليخرجوا من مأزق واقعي وصلد في واقعيته الخشنة؟ كلا، هذا النوع من الكلام، هو ببساطة، كلام غير مسئول، فضلاً عن أنه كلام غير سياسي، يقارب مشكلة خانقة، هي في الأساس والتفريعات، مشكلة سياسية من الطراز الأول. فالحصار المرعب، الفاشيّ في قسوته وساديته، لحماس ولحكومتها، هو تطويع سياسي للحركة، وإنذار لكل الشعب الفلسطيني، بأنه، ما لم يتنازل عن ثوابته، فإن المزيد من الأذى والسوء ينتظرانه. إنها رسالة واضحة من إسرائيل وكل العالم، العربي والأجنبي، بأن زمن حماس مقفول. وأنها لن تنجح أبداً. فكل الطرق أمامها مقفولة أو تكاد. فهل وصلت الرسالة، وبالأخصّ لقادة حماس، الذين يكتوون الآن بنار السلطة ومسئولياتها الكبرى، قبل أن يستشعروا نشوة الانتصار؟ للأسف، نقول إنها لم تصلهم، كما يجب الوصول، وكما ينبغي الفهم. فهم يراهنون، ولا أفهم ذلك، على صمود شعبنا، دون أن يسألوا أنفسهم، عن مقوّمات هذا الصمود. إننا عملياً، على حافة الجوع، فكيف لجائع أن يصمد؟ وهل هذا معقول أصلاً؟ ثم إلى متى ستنتظر الناس، هل إلى ما لا نهاية؟ سينتظرون لو كان هنالك حلّ. لكن الأفق مسدود، والحالة تتدهور يوماً بعد يوم. وأخشى ما نخشاه، أن نصل قريباً إلى أن تولد في بلادنا صومالٌ جديدة. صومال بدل سنغافورة التي وعدنا بها ذات سنة المليونير المناضل نبيل شعت. لقد تناهى إلى سمعي من عدة مصادر قريبة من حماس، بأن الحركة لن تتنازل عن يوم واحد من الأربع سنوات القادمة، وهي المدة الدستورية للحكومة المنتخبة. وإذا انهارت هذه الحكومة، لأي سبب، فإن البديل هو الفوضى بكل ما تعنيه الكلمة، من نذر حرب أهلية، ومن انقلاب الضحية على نفسها، بدلاً من الذهاب إلى الجلاد !
ثمة من يخزّنون السلاح، من الطرفين، فتح وحماس. فإلى أين سنصل مع هذه العقلية العصبوية، وإلى أين ستأخذنا الطريق؟ إن مشكلة حماس هي مع نفسها أولاً، قبل أن تكون مع القوى الفلسطينية، ومع العالم. فهي دخلت إلى ساحة المسئولية السياسية، دون أن تكون مهيأة لذلك. فالخبرة تنقصها، والبراءة التي ذكرها محمد حسنين هيكل، في حديثه إلى قناة الجزيرة، لن تنفعها في شيء، بل على الأرجح، ستنقلب عليها لا لها. فلا براءة في عالم الذئاب والكلاب. ولا براءة في العمل السياسي القذر. ولا أخلاق بالطبع والبداهة. وعلى كل عاقل أن يتعامل، في السياسة، مع العالم كما هو. لا كما يجب أن يكون. فالمنطقة الأخيرة، منطقة عمل الأديب والشاعر والفنان عموماً. إنها منطقة ما يجب أن يكون لا ما هو كائن. وما هو كائن هو بالضبط منطقة عمل السياسي. وعلينا جميعاً احترام هذه الفروق بين المنطقتيْن. لكن المشكلة أن قادة حماس، فيهم من الحالمين، أكثر مما فيهم من الواقعيين. وفي العمل السياسي، تكون هذه الخصيصة هي أم المشاكل، بل هي الكارثة بعينها. فأنت كسياسي، محظور عليك أن (تشعرن الواقع). لأن شعبك، هو الذي سيدفع الثمن باهظاً حارقاً، بعد زوال الوهم أو الشعر، الذي سرعان ما يتبخّر حين يواجه أصغر حقيقة مادية على الأرض الرخوة. ماذا يعني هذا في التحليل الأخير؟ يعني أن على حماس أن تكفّ عن ممارسة أحلامها التي هي أقرب إلى الأوهام، وأن تسعى جاهدة، وبديناميات حثيثة إلى أن تخفف من عزلتها، وعزلة شعبنا، باتخاذ عدة قرارات استراتيجية، قبل فوات الأوان. منها أولاً : تشكيل حكومة وحدة وطنية. وهذا لن يحدث قبل اعتراف حماس بمنظمة التحرير وببرنامجها السياسي المنفتح على مفاوضات السلام، وإقرارها ما تمّ من اتفاقيات بين المنظمة وإسرائيل. ثانياً : الاعتراف بمبادرة السلام العربية، التي أُقرّت في قمة بيروت 2002. ثالثاً : الاعتراف بكل القرارات الدولية، الصادرة عن الأمم المتحدة. ثلاثة شروط، ستوفّر، لحماس، أفقاً، وفسحة، هي بأشد الحاجة لهما. ونحن لا نتمنى عليها ذلك، بلا ثمن. فالثمن هو اعتراف إسرائيل والعالم الغربي، وعلى رأسه أمريكا، بحقوق الشعب الفلسطيني، في إقامة دولته على حدود الرابع من حزيران. مع علمنا، بأن إسرائيل، حتى لو اعترفت حماس اعترافاً مباشراً أو غير مباشر بها، فلن تكترث. إذ هي ماضية في خطة (التجميع والانطواء)، كما أعلن عن ذلك مراراً، رئيس وزرائها إيهود أولمرت. فإسرائيل الآن، في ذروة قوتها، وتعيش أحسن لحظات تاريخها منذ ولادتها في العام 1948. لكن هذه الخطوات من جانب حكومة حماس، ستنفي عنها تهمة الإرهاب، وستجمع حولها من الأصدقاء، في أوروبا الموحدة وروسيا والصين واليابان، وبعض الدول العربية، بما يكسر هذه الأزمة الخانقة، التي وضِعنا جميعاً، حكومةً وشعباً، بين شقي رحاها. أما أن تعوّل حماس، كحركة وكحكومة، على عامل الوقت، وعلى انتظار المدد، من جهات غير مضمونة، فذلك ليس غير انتحار وهروب إلى الأمام. لقد بدأ كيل الناس يطفح. فالجوع لا يرحم والمسئوليات ثقيلة باهظة. وإذا كانت حماس لا تريد أن تغيّر، وهي في الحكومة، ما درجت وتربت عليه داخل الحركة، فإن من المنطقي والواجب عند ذلك، أن تترك الساحة لغيرها، وأن تعتذر لشعبها الفلسطيني، عن عدم مقدرتها على الاستمرار في (لعبة قذرة) كهذه اللعبة التي وجدت نفسها مأسورة في شباكها. فذلك أحسن لها وللشعب بأسره. حينها سيعرف الشعب أنها غلّبت المصلحة الوطنية العليا، على مصالحها كحركة. وحينها ستخرج من اللعبة بماء الوجه، وبقدر موفور من الكرامة والحصافة. أما الاستمرار في طريق الانتحار السياسي، وتأجيل البحث عن حلول للأزمات، على طريقة quot; عنزة ولو طارت quot;، فهذا أمر نربأ بحماس وبغيرها من القوى، في أن يقعوا فيه. لأنه حل عدمي، والحلول العدمية، تنهك الشعوب القوية، فما بالك بشعبنا المستنفد القوى؟ لقد وصل الشعب الفلسطيني إلى مرحلة من تاريخه السياسي، محظور عليه فيها أن يقبل بخطايا التجريب السياسي والمغامرات والمقامرات. وإذا كانت حماس، بحكم حداثتها في العمل السياسي المسئول، تقريباً بلا تجارب، فإن عليها، أن تستشير السياسيين والمفكرين وكتاب الرأي العرب والمسلمين وغيرهم. ونحن نعرف أنها فعلت بعض هذا، واستشارت عدة أعلام كبار في الساحة العربية، لكننا نعلم أيضاً، أنها لم تأخذ بنصائحهم، ولم تؤمن بما أشاروا عليها، وظلت على ما هي عليه. وواضح أنها، مهما حُشرت في الزاوية، فإنها لن تتغيّر سوى ببطء شديد، في لحظة تاريخية سياسية متسارعة الإيقاع، لن تنتظر بطء حماس وترددات وحيرة حماس. ليس معنى هذا، أن نوافق العالم على إيقاع حماس في المصيدة، كأن تعترف اعترافات مجانية، ثم لا يُعترف بحقوقنا. فلكل شيء ثمن سياسي، ونحن ضد الاعترافات بلا ثمن، لكن معناه أن تسرع حماس قليلاً، وألا تتلكأ. فالضغوط علينا من جميع الاتجاهات. ولا بد من أفق تجترحه الحكومة الجديدة، كي تخفف من عزلتها. صحيح أن إسرائيل ومن ورائها أمريكا، هما المتفرّدتان بالحلّ، لكن الصحيح أيضاً هو أن لنا أصدقاء في هذا العالم الواسع. أصدقاء لم يتحوّلوا بعد إلى أعداء أو خصوم. وعلى حماس، كحكومة، أن تتكلم مع هؤلاء بلغة يفهمونها، لا بلغة الجوامع والمساجد والفعاليات الشعبية. إنها ملزمة الآن بالبحث عن ظهير سياسي لها، سواء في العالم العربي أم الإسلامي، أو الدولي. مع لفت انتباهها إلى أهمية وجدوى العالم الدولي. فهو عملياً، من يستطيع نجدتنا، أكثر من العالمين العربي والإسلامي. فهذان العالمان، نعرف حالهما، ونعرف أنهما عاجزان عن تقديم المساعدة لشعوبهما، فكيف لنا أن نحلم ونعوّل عليهما وهما على ما هما عليه من انحطاط وتدهور على كل الأصعدة.
لتتكلّم حماس، حكومةً لا حركة، بلغة سياسية، لغة الحقائق والوقائع : لغة تحترم العقل الإنساني أولاً وأخيراً. ولتترك لغة الميتافيزيقا إلى حين يخرج شعبنا من النفق المظلم، وإلى حين يتذوق أولى ثمار الترف والفراغ والرفاهية، فلّعله حينها، سيسمح لنفسه بالتهويم. أما الآن، في هذه الحقبة الحساسة من تاريخه، فإنه أحوج الشعوب إلى لغة الواقع لا ما وراء هذا الواقع. وإلا فمن حقه وحقنا على حكومتنا الراشدة، أن نسألها، اليوم وغداً وبعد غد: وماذا بعد؟ أجل وماذا بعد يا حماس؟