أكتب هذا المقال ويدي على قلبي، نعم : يدي على قلبي. فليس من سمع كمن عاش، ونحن نعيش في قلب المحرقة. ونعرف على جلدنا ما لا يعرفه البعيدون. نعرف أننا كشعب فلسطيني محتل ومحاصر ومضغوط، مقبلون قريباً على مرحلة كارثية، ما لم يلحقنا بعض ذوي العقل والضمير من قادة هذا العالم. فهذه السلسلة من الضغوطات، التي تجاوزت كل مدى، لن توصلنا إلا إلى الكارثة. شعب مارس خياره الديموقراطي، للمرة الأولى في تاريخه، وتاريخ المنطقة العربية، تُمارس ضده الآن، أعتى المؤامرات، ويُعاقب، لأنه قال كلمته. يُعاقب عقاباً جماعياً، من الجميع، عرباً وغير عرب. ويُحشر في الزاوية الأضيق، مُهدداً في لقمة عيشه، وفي حليب أطفاله، وفي دواء مرضاه. وكل ذلك تحت حجة انتخابه لحماس. بل يُخططُ له، في آخر المتمة، أن يدخل في حرب أهلية طاحنة، بعد أن هُيّأت لها كل الأسباب، الخارجية والداخلية، ولم يبق إلا موعد تحديد ساعة الصفر لا أكثر. لست بالطبع من مؤيدي عقلية المؤامرات، لكنّ الواقع والحقيقة والتحليل البسيط، كل هذه تُحتّمُ قول الحقيقة المرة، وهي أننا ذاهبون، بفضل إسرائيل وأمريكا وحراجة الوضع الداخلي المُسمّم، إلى خيار كهذا!
لن أتكلّم عن الخارج، فالكل يعرف ما يفعله الخارج بنا، لكنني، ولشرف الحقيقة أولاً وأخيراً، سأتكلّم عن الداخل وما يحدث فيه من بانوراما سوداء، هي الضربة المؤلمة في الخاصرة. فنحن هنا، لم نعرف طوال تاريخنا، هذا الاستقطاب الحاد المتوتر المخيف حقاً، بين تنظيماتنا وقوانا السياسية. وأفصد بالطبع : الاستقطاب الحاد ما بين فتح وحماس، فهما القوتان الكبريان، وأقصد تحديداً، فتح أولاً ومحازبي فتح أولاً. فحماس، وطوال عهدنا بها، حافظت على انضباط عال، بما هي حزب ديني أيديولوجي، في رأسها وقاعدتها. بمعنى، ما تقوله رأس الحركة، تلتزم به كل القواعد. دون أن يشذ عن ذلك، عنصر واحد من عناصرها القاعدية. هكذا عوّدتنا منذ نشأت، أيامَ quot; المجمّع الإسلامي quot; في قطاع غزة، منتصف سبعينات القرن الماضي، وحتى هذه اللحظة. ولعلي أتكلم هنا عن تجربة عشتها شخصياً، وأعرف بعض أدق تفاصيلها. فلقد كانت تربطني بالشهيد المرحوم عبد العزيز الرنتيسي، قائد الحركة الراحل، علاقة صداقة ومعرفة مبكرة، وكنت ألتقيه في عيادته، كطبيب أطفال، الكائنة في شارع البحر بمدينة خانيونس، حيث أعيش وأسكن. منذ ذلك التاريخ، 1976، عرفت الرجل، وأوشكت، في لحظة ما، أن أومن بما يؤمن به، لولا إصابتي المبكرة، بداء القراءة، وانفتاحي على قراءة الأدب العالمي والكتب اليسارية الشائعة في ذلك الوقت. الأمر الذي أبعدني، وأنا ابن ست عشرة سنة، عن هذا الفكر، وعن أصحابه.
أقول، وهذه سمة فارقة لحماس، لا يشبهها فيها، إلا قوى اليسار الشيوعي القديم، إن لديهم انضباطاً قاسياً، مسئولاً، لا يتمتع به الآن أحد غيرهم في الساحة. ورغم أنهم تعرضوا لكافة أنواع العسف والظلم، داخلياً، وعلى أيدي إخوتهم، من أقطاب ورموز أوسلو، الأمنيين، إلا أنهم ضبطوا أنفسهم، وتعالوا على جراحهم، وآثروا المصلحة العامة لحركتهم، على أية مصلحة شخصية أو هامشية. ولتفسير كلامي هذا، أُذكّر القرّاء، بما حدث لقادتهم التاريخيين، في سجون الأمن الوقائي والمخابرات، أيام حكم عرفات. حيث عُذبَ هؤلاء، ونُكّلَ بهم، كما لم تفعل من قبل إسرائيل أيام احتلالها البغيض. ويكفي أن يعرف القارىء غير الفلسطيني، أن معظم وزراء الحكومة الجديدة، دخلوا سجون السلطة من قبل.
ومع هذا، ولكي لا نغوص في مسرد تاريخي ليس موضوعنا، نعود لنؤكد، بأن حماس، قادة وأفراداً عاديين، لم يستخدموا سلاحهم، إلا بهدف quot; المقاومة quot;. أما غيرهم، والقارىء يعرف المقصود، فقد استخدموا سلاحهم، لألف هدف وهدف، واسألوا جماهير شعبنا، إن كنتم لا تعلمون.
هذه نقطة، وأما الثانية، فعلى حماس الآن، أن تختار بين رومانسية الأيدولوجيا، وبين واقعية السياسة. فالسياسة، كما يعلم الجميع، هي الدرجة 45 فهرنهايت، التي تحترق عندها كل كتب الأيدولوجيا. وما لم تستوعب حماس هذه البديهية، وبأسرع وقت، فإنها ستخسر، وسيخسر شعبنا التي تتولى قيادته، ومسؤولية تسيير شؤونه الصعبة. ولن تجد لها ظهيراً، لا عند العرب، ولا عند غيرهم. وهذا يعني عملياً، أن تكف عن تناقضات وضبابية خطابها العام، فالمستفيد الوحيد منه، في ظروفنا، هو إسرائيل، لا الشعب الفلسطيني. وأن توافق على مقررات الشرعية الدولية، ومبادرة السلام العربية. وبدون ذلك، ستفاقم من عزلتها، وستجر شعبنا إلى متاهات، هو بالتأكيد في غنى عنها، بعد أن أُنهك، وصارت همومه المعيشية، توازي همّه السياسي والوطني، بل أحياناً تتفوّق عليه.
لذا لا حاجة للمكابرة، ولا حاجة لتضييع الوقت في خطايا التجريب. فالوقت لا يتسع للمكابرة، ولا يتسع لترف تضييعه، في خطابات تليق بخطيب الجمعة لا السياسي. صحيح أن المسألة غاية في الصعوبة، وصحيح أن غير حماس احتاج إلى عقود ليغيّر مواقفه، وأقصد هنا فتح ومنظمة التحرير. لكن الصحيح أيضاً، أن الزمان اختلف. وأن زمن حماس الحالي أكثر تعقيداً، محلياً وإقليمياً ودولياً، من زمن فتح الماضي. لذا فإن حماس مطالبة الآن بعدة استحقاقات، لا يمكن الالتفاف عليها أو التنصل منها. من هذه الاستحقاقات :
أولاً : ضرورة الإسراع بتشكيل حكومة إنقاذ وطني، تحتوي كافة ألوان الطيف السياسي الفلسطيني. وذلك لتعضيد الجبهة الداخلية، والخروج من أفق الاستقطابات والمناكفات الحادة، التي لو مُدّ لها الحبل على الغارب، فأخشى ما نخشاه، أن تفضي بنا إلى حرب أهلية، لا تُبقي ولا تذر.
ثانياً : الاعتراف دون تلكؤ بمقررات الشرعية الدولية، وأيضاً بخارطة الطريق، التي على أساسها، تصرف علينا الرباعيةُ ومن خلفها العالم. فالعالم في الأخير، لا يصرف علينا من أجل سواد عيوننا، بل من أجل مصالحه هو وحساباته هو. هكذا هي السياسة. ومن لا يعجبه، فليطعم نفسه بنفسه، أو ليترك الساحة لغيره. ولن تجدي ههنا الشكوى المعهودة من ظلم العالم لنا، ومن كيله بمكيالين، فهذا خطاب قديم نعرفه كضحايا وشبعنا منه، أما الجلاد فلا يعنيه من قريب أو بعيد. كما لا يعيره التفاتاً سياسيو عالم اليوم. ذلك أن السياسة لعبة، لا مكان فيها للأخلاق، وإنما للمصالح والمصالح فقط.
لقد ضاقت أمام حماس الخيارات. وكل يوم يمرّ يفاقم من أزمتها في كرسي الحكم، ويكاد يوصلها سريعاً إلى طريق مسدود. ولن يجديها نفعاً، أن تعوّل على quot; عمقها الإسلامي والعربي quot;، فهذا العمق بالأخصّ، جُرّب منذ عام النكبة، وأثبتت تجاربُ التاريخ، أن لا طائل من ورائه. وما المراهنة عليه، مجدداً، إلا نوعاً من مراهقة سياسية. فالكل يعرف، أن هؤلاء العرب والمسلمين، مرتهنون لأمريكا وإرادتها. ولن يرسلوا قرشاً لحكومة حماس، إلا برضى أمريكا.
أما خيار البحث عن حلول مشابهة، كأن تجمع الحكومة تبرعات من الشعوب، وأن تراهن على ذلك، فهذا شيء غير سياسي أصلاً. وشيء يليق بجمعية خيرية لا بحكومة، تحتاج إلى 160 مليون دولار شهرياً، كرواتب ونفقات جارية.
لقد وقعت حماس في المقلاة، قبل أن تستيقظ من نشوة انتصارها. والسؤال الآن: ماذا بعد ذلك الانتصار الانتخابي؟ واضح من كل المؤشرات، أن الهزيمة العاجلة تلوح في الأفق. فنحن جميعاً، كفلسطينيين، في القفص. محاصرون مجوّعون، ويتحكّم فينا صاحب القفص. وما لم تغيّر حماس، كحكومة، من لغتها المعارِضة والجهادية، وتقدم حلولاً ومقترحات ورؤى سياسية مرنة، أي تقدّم برنامجاً سياسياً واضحاً ومقبولاً، فعلى الأرجح، سيُغرقها الطوفان، ونحن معها سنغرق. إن لغة التطمين والأمل، التي يلجأ إليها قادة الحركة، على نحو تعبوي وتبشيري، غير لغة الواقع والأرقام، للأسف. والواقع والأرقام يقولان بأن حماس مسئولة الآن عن إطعام وتسيير حياة أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون من الفلسطينيين. فكيف ستتدبر أمرها معهم ؟ أبلغة الزيت والزعتر والفلافل، أم بلغة أن يأكلوا وجبة واحدة في اليوم لا غير ؟ وحتى هذا التقشف وهذه الحمية، ألا تحتاجان إلى سيولة نقد ونفقات جارية ؟ ثم إلى متى يمكن أن يصمد شعب بكامله، حتى لو ربط الأحزمة على البطون ؟ شهراً شهرين ثلاثة ؟ وماذا بعد ذلك؟ وإذا كان الكبار منا يفهمون _ ربما _ ويتفهمون، فكيف يفهم ويتفهم الأطفال والأولاد؟
إنها لغة لا شك مثالية، لا تنفع مع عصرنا وتعقيداته ومسئولياته الباهظة. لغة هي نتاج تربية دينية يوتوبية، لا تمت للواقع المادي الصلد بصلة. وهي عموماً، لغة تصبير لا تسيير : لغة أزمة لا حل. والحل فقط موجود في الخطاب السياسي. وعلى حماس أن تذهب سريعاً إلى السياسة. إذا أرادت لتجربتها النجاح، أو بعضاً منه، في لحظتها ولحظتنا الصعبة هذه.
ختاماً، يتحتّم علينا القول، للمرة الألف ربما، إن ما ينفع قوله في داخل الجامع، وفي إطار خلية حزبية، وأمام حشد جماهيري، لا ينفع ولا يصلح قوله أمام العالم. هذه هي السياسة، وعلينا جميعاً، سلطة ومعارضين، أن ننتبه للسنوات القادمة. ففلسطين ال 67 تضيع الآن من تحت أقدامنا، وخطة أولمرت للحل أحادي الجانب، شيء جدي جداً، وليس موضوعاً للمناورة أو المزاح. فإسرائيل بقطبي حكومتها، كديما والعمل، يشتغلان على تنفيذ هذا الحل الكارثي، وعلى سرعة إنجازه على الأرض. بما يعني أن نصف مساحة الضفة الغربية ستضيع من أيدينا، وبأن القدس الشرقية ستصبح في خبر كان وأخواتها. وكل ذلك يتمّ وسوف يتمّ، في أجواء سياسية غاية في البؤس والسوء بالنسبة لنا، وغاية في اليسر والراحة بالنسبة لإسرائيل. لذا ليس من مصلحة أحد منا، ولا من مصلحة قضيتنا الوطنية، أن ننشغل بمناكفاتنا الحزبية، وبصراعنا الداخلي، وبغرور بعضنا، فيما السفينة التي تضمنا جميعاً، توشك على الغرق، في بحر السياسة الدولية العاصف.

16 نيسان 2006