في عيد الفصح المجيد

ويا خجلاً من الآباء الأجلاَّء

كان وقع الاعتداء على الكنائس في الاسكندريَّة أليمًا على أنفسنا نحن المغتربين العرب والمسلمين تخصيصًا، ولا سيَّما أنَّه صادف في عيد الفصح المجيد الذي يحتفل فيه أخوتنا المسيحيًُّون ببعث سيِّدنا المسيح وصعوده للسماء. (quot;وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يََمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّاquot;- سورة مريم/ آية 15) وسواء كان المعتدي الأثيم معتوهًا أم مجرمًا، فقد أشعرنا بالخجل والعار ونحن نجتمع مع إخوتنا المغتربين لتهنئتهم بعيدهم المقدَّس.
لم إدر لِمَ شعرت كأنّّني أنا المسؤول مباشرة عن هذه الجريمة النكراء، وودت لو أنَّني لم أعرف هذا العدد الكبير من الإخوة المسيحيِّين في أوتاوا وغيرها من المدن الكنديَّة حتَّى أجنِّب نفسي مغبَّة الشعور بالخزي والذنب. ولكن كيف لي ألاَّ أقدِّم التهاني لهم، وهم نعم القوم وخيرة الصحب لي. كيف أبتعد عنهم في عيدهم وهم أوَّل مَن يهنِّؤوننا في أعيادنا الدينيَّة، ويقفون بجانبنا ويدافعون عن إسلامنا عندما نتعرَّض لسُخط نفرٍّ قليل جاهل في كندا من جرَّاء ما جرَّه علينا بن لادن وأضرابه الذين احتكروا الإسلام لنتحمَّل نحن المغتربين جريرة ما يفعلون!
كيف لي أن لا أقدِّم التهاني بعيد الفصح المجيد للأباء الأجلاَّء حبيب كويتر وفرنسوا بيروتي ونديم بطيخ وغطَّاس حجل وريمون حنَّا وشنودة بطرس من الكنائس الكاثوليكيَّة والأرثوذكسٍّة والمارونيَّة والمرقصيَّة القبطيَّة في أوتاوا، وهم يفتحون صالات كنائسهم لنا لنحيي فيها افراحنا ومناسباتنا الاجتماعيَّة، ويشاركوننا فيها! كيف لي أن لا أفعل ذلك مع زملاء وإخوة يتكلَّمون لغتي ويشاركونني تاريخي وتراثي، آكل معهم وأزورهم في بيوتهم ويزورونني في منزلي! ويواسونني وأواسيهم! أليسوا هم أهل كتاب كما يقول مصحفنا الشريف!
كيف لا أقدِّم التهاني بهذا العيد المجيد للسفير اللبناني الماروني ريمون بعقليني وهو الذي يشارك في كلِّ عملٍّ عربيٍّ ولا سيَّما إذا كان ذا طابعٍ إسلامي، وقد طالبت الجمعيَّات الصهيونيَّة في كندا بطرده أكثر من مرَّة لنشاطه الذي يعتبرونه ضدَّ إسرائيل! أليس هذا السفير الماروني هو الذي استضاف قبل أيَّام السيِّدة رباب الصدر شقيقة الإمام المرحوم موسى الصدر عندما زارت أوتاوا لجمع التبرُّعات لمؤسَّستها الخيريَّة في لبنان! وأليس هو أيضًا مع الأب نديم بطِّيخ الذي لبَّا دعوة مؤسَّسة quot;أهل البيتquot; للمشاركة في تكريمها وألقيا كلمتين لخَّصتا التسامح الديني الحق وشدَّدتا على الإخاء المسلم المسيحي!
كيف لا أخفي وجهي خجلاً عندما تُهاجم الكنائس في مصر وتتعرَّض للإساءة والاعتداء من معتوه أو مجرم، بينما نحن الأقليَّة المسلمة في كندا ننعم بالأمن وحريَّة ممارسة تعاليم ديننا، وتُقدَّم لنا كلَّ التسهيلات لبناء مساجدنا! فعلى سبيل التذيكر والعرفان، أذكر أنَّ أوَّل مسجد بُني في كندا، وربَّما في أمريكا الشماليَّة قاطبة كان في مدينة إدمنتون عام 1937 عندما تقدَّم عدد قليل لا يتجاوز العشرة من سيَّدات مسلمات من رئيس البلديَّة آنذاك للسماح لهم ببناء مسجد. وفعلاً وافق رئيس البلديَّة على طلبهنَّ وقدَّم قطعة الأرض التي بُني عليه مسجد الرشيد هديَّة بالمجان من بلديَّة مدينة إدمنتون التي لم يكن عدد المسلمين فيها آنذاك يتعدَّى المئات. كيف تسمح لنا ضمائرنا أن نسكت كشياطين خُرسٍ عن الحقٍّ في نصرة إخوة مسيحيِّين لنا في أوطانهم التي سكنوها مسيحيِّين قبل أن نسكنها نحن مسلمين! أهكذا يكون التسامح الديني، و quot;لَكُمْ دِيُنُكُمْ وَلِيَ دينٌquot;! وهكذا يُقابل مَن يسهِّلون لنا بناء مساجدنا هنا، ونمنع عن إخوتهم في الدين حتَّى ترميمها في موطنهم الأصلي.
كم كنت أودَّ أن أشارككم في صلاة عيد الفصح في جمعتكم العظيمة! كم كنت أودُّ أن أكون معكم وأنتم تقولون في كنيستكم، بيت الله: quot;نُؤمن بِإلاه واحدٍquot;. لقد تعلَّمت منكم أنَّ quot;الأديان نوافذٌ ترى الله منها مقلةُ المتعبِّدِ.quot; وعلمت أنَّكم أكثر تسامحًا من معظمنا. ولكن جريمة الاعتداء على الكنيسة حالت دون حضوري. وها أنا على الملأ ومن على صفحات quot;إيلافquot;، أقولها والألم يعتصر فؤادي والشعور بالخزي يلُّفني: عُذرًا إخوتي الكرام، لقد أفسد بهجة عيد الفصح المجيد على إخوتنا في مصر معتدٍ أثيم ومحرِّضٍ مجرم أثيم، ولست أعلم أيُّ مسلمين هؤلاء، فأنا وإسلامي منهم بُراء. ونحن كما قال الأب نديم في كلمته مرحّبًا بالسيِّدة رباب الصدر، آتين إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، والله يحكم بيننا بالحق.
أمًَّا أنت يا أخي ريمون بعقليني، كما ذكرت لك: quot;ما اروعك مرَّة ثانية!quot; دعني أشارك القرَّاء ما كتبته فيك وعنك وأنت في كندا تخطُّ المثل الصالح لنا أجمعين مسلمين ومسيحيِّين:
غالبًا ما يفكَّر الإنسان بأمور خاصَّة عندما يخلو إلى نفسه. وأحيانًا يُقحم عليه التفكير بغضِّ النظر عن تواجده، ويودُّ أن يشارك الآخرين فيما يخطر على البال، ولا سيَّما إذا كان أمرًا عامًّا. هكذا كان شأني وأنا أستمع لكلمات الترحيب بالسيِّدة رباب الصدر في مركز quot;أهل البيتquot; في أوتاوا.
ما أن فرغ عريف الحفل من كلمته، حتَّى توجَّه للسفير ريمون بعقليني ليتقدَّم إلى المنصَّة للمشاركة في كلمات الترحيب. وقف السفير وتقدَّم بخطًى متئِّدة نحو المنصَّة، ثمَّ ألقى نظرة سريعة على حشد المشاركين كمن يريد أن يشدَّ إليه الأنظار ويصيخ إليه السمع. وبهدوء الواثق، ونبل الفارس تمهَّل قليلاً وكأنَّه يستحضر الكلماتِ التي ترتفع إلى سموِّ الأحاسيس التي تجيش في الصدر لتعبَّر عن جلال المناسبة ليس في فرديَّتها وخصوصيِّتها، بل في شموليَّة تستوعب الحدث، وتسع للوطن. بصوت مجلِّلٍ بالوقار متناغم مع الأمل في مناتسبة تستدعي الإلفة والإخاء، ومستشفًّا رؤى مستقبلٍ يضمِّد الجراح ويسمو على واقعٍ لا بدَّ أن ينجلي ليله عن نهار، وبتفاؤلٍ لم يفارق النفوس الكبار، جمعت كلمة السفير ريمون لبنانَ أرضًا وشعبًا، واقعًا وتاريخًا، تعايشَ أديان وتباينَ آراء، وتعدُّد مذاهب وطوائف. ولخََّصت أمل الوطن وتضامن شعب في سرَّاء وضرَّاء.
لم يرَ، كما بدا لي وأنا جالس استمع بكلِّ جوارحي، السفير ريمون خيرَ فاتحة يتوجَّه بها للحضور من: quot;السلام عليكم ورحمة الله وبركاتهquot;. ونعمَّ ما اختار. مسيحيُّ ماروني، يجسِّد أفكار المسيح ونبلها، ويستلهما معبِّرًا عن مشاعره وأحاسيسه، وكثيرًا ما استعان بها في إيضاح فكرة أوتبيان حقيقة، يبدأ كلمته استهلالاً ينعت قائله، وينمُّ عن وجدانه. وكيف لريمون أن يتحرَّج أو يتهيَّب! وهو الذي يمثِّل لبنان بكلِّ ما فيه من خير وجمال، من تعايش وإلفة لأجيالٍ وأجيال! لبنان الذي طاب هواء وأرضًا ورجالاً. لبنان الصغير بأرضه والكبير الكبير بشعبه مسلمًا ومسيحيًّا بطوائفه وتعدِّد مذاهبه! لبنان الواثق من نفسه لبنانيًا، ومن انتمائه عربيًّا!
لم يتردَّد ريمون، والكلمات تنساب منه نبيلة بليغة، آسرة وساحرة، يغلِّفها الأمل الذي يبدِّد اليأس أن يتابع استهلاله مخلصًا: quot;بسم الله الرحمن الرحيمquot;، ليتعانق الدين، فيجمع أبناءه في حبِّهم لأرض لبنان، وفي دأبهم للحفاظ عليه والارتقاء به. قالها مذكِّرًا كذلك بقرب قيام السيِّد المسيح المجيد، وقرب ميلاد الرسول العربي، وكأنَّه يضمُّ روحًا لجسد، ودينًا لبلد.
ريمون، أنت المسيحيُّ الماروني، اللبناني الصميم، غدوت مثلاً يُحتذى ليس للبنانيِّين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وانتماءاتهم المذهبيَّة والسياسيَّة والعقيديَّة فحسب، بل لكلِّ عربيٍّ يؤمن أنَّ الدين لله والوطن للجميع. تريدهم أن يشتركوا في الأرض وإن اختلفوا في دربهم للسماء.
هكذا، أُقحم عليَّ التفكير، وأنت يا ريمون لم تنه كلمتك بعد. أو ربِّما وأنا أستمع إليك خلت نفسي وحيدًا، فلم أخف من التفكير بصوت مرتفع، ولم آبه بمن لا يستمعون القول، ولا بمن لا يتِّبعون أحسنه. وليت أولئك النفر في مصر يسمعمون ويعملون!
لكم كنت أودُّ أن يكون صمتي أبلغ ما يعبِّر عن إكباري وإجلالي لك، وأنت ببلاغة وصدقٍ ترحِّب بسيِّدة مسلمة، وتعلن انبعاث لبنان في تسامحٍ دينيٍّ والتزام لبنانيٍّ وانتماء عربيٍّ.
لذا، ارتقاء لاستهلالك، وتلخيصًا لإيجازك، أختتم بـ: quot;ما أرعك يا ريمون مرَّة ثانية!quot;

كاتب المقالرئيس المركز العربي الكندي للثقافة والإعلام ndash; أوتاوا/ عضو مجلس إدارة نادي الصحافة الوطني الكندي.ورئيس لجنة الارتباط بالهيئات الدبلوماسيَّة
[email protected]