إذا كانت جميع الأفكار والنظريات لا تستطيع تحريك قشةٍ من مكانـها، فإن الصراعات الاجتماعية الكبرى لا يمكن فهم حركتها وتوجيهها دون أفكار ونظريات. هذه المفارقة هي التي تجعلنا نميز بين حقائق الواقع التي تبدو قاسية أحياناً، وبين إمكانيات العقل على إدراك العوامل التي تحركها صعوداً وهبوطاً.
أن الصعوبات التي يعيشها العراق هذه الأيام هي من النوع الاستثنائي حقاً، بحيث يستدعي الأمر إحضار البديهيات إلى جانب الحقائق، فحتى المجتمعات المستقرة والدول التي لم تتعرض لهزات كبيرة، تحتاج دائماً إلى وسائل حماية، وإلى عمليات تطوير دائمة لوسائلَ الحماية تلك. فكيف هو الحال بالنسبة لنا في العراق حيث يُراد إعادة تأسيس الدولة والنظام الذي يُديرها من جديد ؟! وإلى أي نوع من الحماية نحتاج بعد أن انهارت الدولة السابقة وأصبحت بلادنا مكشوفة سياسياً وعسكرياً وعلى مختلف الأصعدة الأخرى ؟! إلى أيّ نوع من الحماية نحتاج وقد عُدنا قرناً كاملاً إلى الوراء ؟! وما أشبه بداية القرن العشرين بـهذه الأيام وما أغرب المفارقة حقاً ؟!
نحن بحاجة إلى حماية ذاتية بعد أن عشنا أكثر من أربعة عقود تحت كابوس القتلة والجلادين، وتحت كابوس ( حماية.. تهم ) وهذه مفارقة أخرى !! عقود من القتل والظلام، دون أن نجد أحداً يقف معنا في هذه المحنة !! ولم يكن هذا الدرس خافياً على ضمائر العراقيين ومشاعرهم، فكان نبذ التفرقة والإصرار على التشبث بالوحدة الوطنية، ردة فعل أولى متوقعة من جميع الأطراف والاتجاهات رغم ارتفاع وتيرة الرطانة والأكاذيب الطائفية مؤخراً.
وكان هذا الموقف هو التعبير الجماعي عن إدراك العراقيين لأهمية الحماية الذاتية كضرورة قصوى. لكن لنتساءل : ما هو السبب الأساسي الذي أوصلنا إلى هذه المحنة التي نحن في خضمها، بل ما هو السبب الذي جعلنا نعيش قرناً كاملاً في خضم اضطرابات سياسية حولتها الأنظمةُ المتعاقبة إلى ثقافة عامة أسمها ثقافة الاضطراب، وفرضتها على حياة الناس وكأنـها قدر أعمى لا مرد له !! السبب هو أن تلك الأنظمة لم تكن تملك الشرعية الدستورية التي تجعلها فعلاً تمثل طموحات العراقيين ومصالحهم !! لقد كانت عقدة الشرعية الدستورية هي التي تحرك السلطات السابقة بطريقة مضطربة. كانت عقدة الشرعية الدستورية هي السبب في خوف السلطة من حقوق المواطنين وحرية المجتمع. هذه العقدة هي التي اختصرت الدولة والشعب في حزب واحد ثم في شخص واحد. وبدل حماية المجتمع، أصبحت الدولة برمتها مكرسة لحماية هذا الشخص الواحد، فقد رفع البعثيون، منذ الفترة الأولى لمجيئهم، شعاراً غريباً يقول ( إذا لم نجعل من كلِّ مواطن شرطياً سنحاج لشرطيٍّ على رأس كل مواطن ) !! وهذا يعني أن إرهاب الأجهزة تحول إلى ثقافة رسمية، وهنا يكمن الخلل الحقوقي الكبير في كيان الدولة. لذلك فإن الحرية التي يضمنها النظام الديمقراطي العتيد، هي من يصلّح هذا الخلل، لتصبح دولة القانون الدستورية هويةً للسلطة المنتخبة شرعياً وعبرها لجميع المواطنين في العراق. وهنا يكمن حلُّ عقدة الشرعية بين الدولة والمجتمع. ومن هنا يمكن أن نفهم أيضاً سبب هذا التصعيد الارهابي المجنون، هذه المجازر التي لم يكن يتوقعها أحد، والتي تجري تحت قناع ( المقاومة الشريفة ) !! فما حدث لم يكن سقوطاً لديكتاتور أو زمرة حاكمة فقط، بل هو أيضاً سقوط لمبررات ثقافة الاضطراب وسقوط لأقنعة اللصوص، لذلك انقلبت الأمور والمفاهيم رأساً على عقب، فقد أصبح الشرطي بطلاً وطنياً حقيقياً بعد أن كان رمزاً للسلطة المضطربة في حين كشف اللصوص اقنعتهم بعد أن طُردوا من أروقة الدولة المنهارة ليواصلوا القتل والخراب علانية وبأسم ( المقاومة ) و ( الوطنية ) !! وعلينا أن نعيد التذكير هنا بمقولة المفكر البريطاني بن جونسن ( الوطنية هي آخر ملاذ للأنذال ) !!
لكن وبمواجهة كل ذلك أصبحت المفاهيم الديمقراطية تشق طريقها ولو بصعوبة رغم وجود الاحتلال والنزعات الحزبية التي ما تزال ترطن بثقافة الماضي الانقلابي القريب، وفي حين بدأ المواطنون يشعرون بأهمية الإدارات المحلية في المحافظات وضرورة تميز المجتمع المدني عن المجتمع الرسمي، صار الحكام الجدد موضوع محاسبة ونقد علني ولم يعد هناك من يُطرب أسماعهم بقصائد كاذبة، فلم يعد بوسع أحد أن يمسك زمام السلطة لوحده، فقد تم توزيع السلطة داخل مؤسسات الدولة بحيث لا يكون بوسع حزب أو إتجاه أن يعيد جثة الديكتاتورية الهامدة إلى الحياة. لقد أصبح الحكام الجدد أمام خيار واحد هو أن يدركوا بأن عليهم تكريس جهودهم لبناء الشرعية عبر الدستور الدائم والنظام الديمقراطي الذين يمكن أن يذهب بهم ويأتي بحكومة أخرى ولكنه يضمن مستقبل العراق وحقوق العراقيين وحريتهم وكرامتهم !! ولكي يتحقق كل ذلك واقعياً لا بد أن نُدرك أن صمام الأمان الأساسي هو العمل جيلاً بعد جيل - حيث لا يحدث هذا بمجرد قرار سياسي - لتحقيق الطبيعة المحايدة لمؤسسات الدولة كي ننتهي من زقوم الحزبية والطائفية والعنصرية.
هذا هو البرنامج الواقعي الذي صار العراقيون يدركونه شيئاً فشيئاً رغم كل الصعوبات القائمة، وهذا هو سبب الهستيريا الدموية الذي أفقد الصداميين والتكفيريين صوابهم وجعلهم يزيدون من وتيرة جرائمهم.
أنه صراع تاريخي بالمعنى الكامل للكلمة، صراع بين ثقافتين، ثقافة الشرعية الدستورية وثقافة القتل واللصوصية، وهنا ليس أمام الشعب العراق سوى ثقافة الأمل والمقاومة مهما كانت الجروح موجعة حقاً.