لم أقرأ شيئاً حتى الآن، عن quot; علم نفس الضحية quot;، وحتى لو كنت قرأت قديماً، فقد نسيته تماماً. لذا سأكتب مستعيناً بمشاهداتي المباشرة، ومن خبرتي المتواضعة، في هذا الشأن. فنحن نعرف أن الخبرة الشخصية وحدها لا تكفي، إذ نحن في الأخير لسنا اختصاصيين، لذا لا بد من الرجوع للكتب الأمهات، التي تعالج وتستبطن ومن ثم تستخلص استخلاصات عامة صحيحة. ولما كان هذا غير متوفر، فلا بأس من الاجتهاد في حدود، إلى أن يأتي عالم نفس عربي، فيكتب. وهو الأمر المشكوك به، على أي حال!
الكل يعرف، معرفة الروتين والبداهة، أن الشعب الفلسطيني، هو ضحية بامتياز، منذ ما يقرب من ستين عاماً، هي سنوات وجود ونشوء دولة إسرائيل، أما قبل ذلك التاريخ [ 1948 ]، فقد كان أيضاً، ضحية وبامتياز كذلك، للاستعماريْن التركي والبريطاني. لكن هذه قصة أخرى، لم يعايشها كاتب هذه السطور، بل قرأ عنها فقط من الكتب.
لن أتكلم ههنا عن الحقبة التاريخية الممتدة من سنة النكبة إلى عام النكسة. فهذه أيضاً حقبة لم أعايشها بحكم تاريخ ميلادي. بل سأتكلم عما حدث، ولو لماماً، بعد سنة النكسة. فمنذ هذه السنة السوداء، في تاريخنا وتاريخ العرب المعاصرين، جاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي، إلى غرف نومنا في الضفة والقطاع والقدس، وفوق ذلك سيناء والجولان. وصرنا نراه وهو يتدخل في كل كبيرة وصغيرة من شئوننا، كمواطنين واقعين تحت سيطرته المباشرة.
جاء الاحتلال، وجاءت معه سجونه ومعتقلاته، وظلمه الفاشي، إلى أن طفح الكيل بضحاياه، فانتفضوا عليه، بعد عشرين عاماً، انتفاضتهم الكبرى الأولى، والتي تمخض عنها وبفضلها، اتفاقُ أوسلو الشهير.
وبحكم سني، فقد بدأت أفهم قليلاً، وأهتم كثيراً، وينضج وعيي السياسي والثقافي، بعد هذه الاتفاقية، وما ترتب عنها وعليها، من نشوء أول سلطة وطنية فلسطينية، في الأراضي المحتلة. كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ، التي يحكم فيها الفلسطينيون أنفسهم بأنفسهم. حتى لو بدا هذا الحكم مثلوماً ومنقوصاً، إلى درجة الإحباط والفداحة! فشيء خير من لا شيء، وبالذات، في وضع إقليمي ودولي، لا يسمح بأبعد من ذلك.
كانت أوسلو تسوية سياسية لا اتفاق سلام عادلاً. وفي كل تسوية من هذا النوع، ثمة مساومات، وتنازلات، وأشياء أخرى مؤلمة.
المهم، ها نحن نحكم أنفسنا بأنفسنا، حتى لو وضعونا جميعاً في زنزانة. إذ خرج الاحتلال من التجمعات السكنية الكبرى، المدن والمخيمات، على نحو مخصوص. وترك لنا، وبالأحرى، لأبي عمار، أن يدير شئوننا المعيشية اليومية، كرئيس بلدية، لا كزعيم سياسي.
تجرّعنا الغصص من وراء ذلك. تجرعنا، وأقصد نحن السكان المحليين، الذين عشنا عمرنا كله، تحت الاحتلال، فلم نخرج إلى المنافي. فهذه الاتفاقية، أولاً، لم تلب الحد الأدنى من طموحنا الوطني. وثانياً، ها نحن نرى، إخوتنا، وقد صدّقوا الوهم، فأخذوا يتعاملون معنا ومع أنفسهم، وكأنهم في الصين، لا في بقايا فلسطين!
ومع علمنا اليقيني، بأن المحروم، يبالغ، إذ ذهب عنه بعضُ الحرمان. إلا أننا لم نفهم ولم نستوعب، أن يتصرف معنا، قادة العهد الجديد، بعنجهية وغرور المحتل. فالمحتل، كان محتلاً قادراً غاشماً، لديه كل مفاعيل القوة. أما هؤلاء، فبفضل تضحياتنا نحن، جاءوا وحكموا. فأن تضيع عنهم هذه البديهة، فإن ذلك لمما يؤلم ويفتح في النفس، مرارات لا حد لها! فماذا حدث ؟ حدث بصراحة، أنهم، نسوا أنفسهم، وصاروا، على غير صعيد، يقلّدون تصرفات الاحتلال ومسلكياته، بل زادوا عليها، غروراً لا مبرر ولا مسوّغ له. بمعنى، أنهم، انقلبوا من طور الضحية إلى طور الجلاد!
لقد قيل، وهذا قول أكيد تاريخياً، أن الضحية، تُفتنُ بجلادها، بعد زمن ما، يطول أو يقصر. وعليه، فلا يخلو الأمر، من أن تقلّده، في الكثير من صفاته السيكولوجية الفارقة والمائزة. وهذا، يا للعار، ما حدث، بعد العام 1994، بالضبط أو بالتقريب.
صرنا نرى، كبار المسئولين، وحتى صغارهم، وأمامهم، في كل خطوة يخطونها، وفي كل مشوار صغير، جيشاً من المرافقين والسيارات. وقد تباروا فيما بينهم، كشريحة حاكمة، في مظاهر الترف والأبهة، وبالغوا حقاً في مثل هذا الصنيع.
أعرف شخصياً، أحدهم، وهو برتبة عقيد، جاء لزيارة أخته في المخيم، حيث أسكن، فبعث قبل أن يُشرّف حضرته، عشر سيارات كبيرة، وحوالي 100 عنصر من الشرطة، ليكونوا حرس الشرف في استقبال القائد العظيم.
وأعرف، ويعرف غيري ممن عاش هذه التجربة، أن هذه القصة، لا شيء بالنسبة لقصص أخرى، أشدّ إيلاماً، وأكثر عبثية وغرائبية، بما لا يستحضرهُ أيُ خيال!
كانت سمة الاستعراض والاستعراضية، هي السمة العامة الفارقة لقادة عهدنا الجديد. لم يحترموا ذكاء شعبهم الطيب، ولم يقدّروا مشاعره أدنى تقدير، فجرحوه من حيث احتسبوا أو لم يحتسبوا. مظاهر كثيرة تكررت حتى أخذت سمة الظاهرة. مظاهر، تدلّ في الاستخلاص الأول البدهي، إلى جوع وحشي للسلطة والحكم، وبالأحرى بعد أن كان هؤلاء في المنفى، يُعاملون كضيوف لهم حد، وتجري عليهم أصولٌ وقوانينُ تلك البلاد.
ولقد صار الواحد منهم، يتصرّف كإله صغير في مملكته. مع أن مملكته ومملكتنا، لم تكن بأكبر من فضاء زنزانة، لكبير الأسف.
البهرجة والتسلط والمحسوبية والمواكب والصرف بلا حدود وتوظيف آلاف المقربين والأحباء، دون أية كفاءة، أو حتى تاريخ نضالي. وهذا غيض من فيض كما تقول العرب.
كان شعبنا يراقب، وهو الحيي الخجول المتربي، ولا يجد سبيلاً، إلا أن يغصّ بالغصص. فهم أولاده وأبناؤه، في أي وكل حال. أما هم فلم يرعووا، بل وزادوا من مسلكياتهم المريضة، إلى أن فاض الكيل، مرة ثانية، وكان ما كان من فوز حماس المزلزل في الانتخابات الأخيرة.
والآن... ماذا نستخلص من كل الحكاية السابقة ؟
نستخلص، وهو استخلاص معروف نظرياً، ولكنه تأكّد هذه المرة عملياً، أن الضحية، يجيء عليها حينٌ من الدهر، فتُفتن بجلادها، وتسعى جاهدة، بعلمها أو بدونه، إلى تقليده، إلى حد الفوتي كوبي أحياناً. هذه حصلت معنا، وجرّبناها وعشناها، لذا يصحّ تأكيدها، عن خبرة وتجربة. لقد كانت مجرد كلمات في الكتب، مثل ملايين الكلمات غيرها، فتجسدت واقعاً وحياة، وذقنا طعمها المرّ، بأكثر مما يحسب البعيدون المُستغربون!
وعليه، يمكننا أن نستخلص، هوامشَ حول متن هذا الاستخلاص [ فتنة الضحية بجلادها، ومحاولتها تقليده ] ومنها : إن الضحية، حين تُتاح لها تجربة الحكم، حتى لو كان محدوداً، لا تُعير التفاتاً إلى كفاءة، بل يعنيها فقط : الولاء. هذه واحدة، وأما الثانية : فالضحية، أيضاً، تحاول دلق مكبوتها التاريخي، على ضحاياها الجدد، وبالأخص، حين يكون هؤلاء من بني جلدتها وأهليها.
وثالثاً : يصل الاتضاع بالضحية حين تحكم، أن تؤمن، ولو في قلبها، أن جلادها السابق، يستحق الحياة، بما هو جلاد متحضر، أكثر مما يستحقها شعبها المتخلّف.
رابعاً : تؤمن الضحية، لأسباب مجهولة ربما، أن شعبها أصغر من كعب رجْلها. وأنه، لو كان شعباً عاقلاً وفياً، لصنع لرجْل الضحية القديمة _ الحاكم الجديد، تمثالاً من الذهب الخالص.
هذه كلها عناوين سريعة، لفصول كتاب لم يُكتب بعد. ونرجو له أن يُكتب، بملايين وملايين تفاصيله، كي نعرف، على الأقلّ، لمَ حدث ما حدث. ولمَ ألحقَ الضحايا القدامى، بالضحايا الجدد من شعبهم، كلَّ هذا الوبال والنكال!
لقد جاءوا في العام 1994، عام المتغيرات الدولية، وسقوط امبراطوريات ودول وأنظمة كان يُظن بعدم قابليتها على المحو، ومع هذا، أعاد إخوتنا تجارب مقبورة، إن عربياً أو عالمياً. ما سرّع بانهيارهم، وما سرّع، بأكثر مما حلمت حماس، في أزهى أحلامها، من نتائج فوزها الكبير الساحق.
هُزموا بالمختصر. أما أسباب الهزيمة الدرامية، فعلى الكتاب الفلسطينيين والعرب والأجانب، أن يبحثوها، على حين متسع من الجهد والوقت.
ربما نكون بهذا، قد خرجنا على سياق موضوعنا، وعلى عنوان مقالنا. لكننا نفعل ذلك، بالقصد، لنقول إن أخلاقيات الضحية، سوف تجدونها في ما بين السطور، أكثر مما هي في السطور ذاتها.
وإذا جاز لنا الاستخلاص، بعد ذلك، فلنقل التالي : عندما تحكم الضحية، تكرر ظلم جلادها السابق، على الواقعين تحت حكمها.
عندما تحكم الضحية، تعيد إنتاج أسوأ التجارب الحاكمة في التاريخ _ تجربة صدام حسين على سبيل المثال لا الحصر، وبعض تجربة عبد الناصر، مع فارق اللحظة التاريخية وشروطها وإكراهاتها.
عندما تحكم الضحية، لا ترى سوى نفسها ومصالحها ومصالح المقرّبين منها. وآخر شيء تراه هو شعبها، الذي لولاه لما حكمت هي.
وتأكيداً للفقرة أعلاه، نقول، ألم تهتف الضحية، ذات يوم بأننا [ ع القدس رايحين، شهداءَ بالملايين ]. فهل يوجد حيكم، غير الضحية ذات الحكمة العظمى، يتمنى هذا المآل _ الوبال، لكل أفراد شعبه!
عندما تحكم الضحية، تنسى التاريخ وعبَر التاريخ، وتظن أن التاريخ يبدأ وينتهي معها ومعها فحسب. بل تظن أن التاريخ هو رهن إشارتها، ومجرد حاجب يعمل لديها حاجباً إلى الأبد!
عندما تحكم الضحية، يكون كل شيء على ما يرام حتى ربع الساعة الأخيرة.. رحم الله عمّتنا حنا إرندت، رغم بعد الشقّة!
عندما تحكم الضحية، يكون الواقعُ الوحيد، هو واقع كلماتها وخطابها العام، أي واقعُ الهواء المتكسّر الخارج من زفيرها، ولا واقع بعده ولا قبله. فبكلماتها فقط يُصنع التاريخ، لا بالأفعال والإنجازات.
عندما تحكم الضحية، تعسكر المؤسسة وتعسكر المجتمع، فيكون من تحصيل الحاصل أن تغدو تهمة quot; التخوين quot; هي كلمتها الأولى والأخيرة، تجاه معارضيها ، حتى لو كان هؤلاء من فئة الكتّاب والأدباء والفنانين الحالمين المثاليين.
هذه هي على السريع، أخلاقيات الضحية حين يُتاح لها، ذات مرة، أن تحكم. فأجاركم الله، أيها القراء الإيلافيون، من ضيق النفَس وبوار النفْس، حين تتحكم بكم ضحيةٌ سابقة!