على الرغم من أن المعرفة الدينية، كما المعارف الأخرى، ليست سوى حصيلة جهد بشري جمعي، لفهم الدين والشريعة الإسلامية، غير أنها من جانب آخر تعتبر محاولة بشرية لمعرفة شيء غير بشري هو الدين الذي جاء به الله سبحانه وتعالى. فمثلما هناك محاولات بشرية متعددة لمعرفة وفهم جوانب غير بشرية أخرى غير الدين، كالجهود العلمية المبذولة لمعرفة ما يوجد في الطبيعة من ثروات (والطبيعة هنا ليست بشرية أومن خلق بشري وإنما من خلق الله) فإن هناك أيضا مساعي بشرية لمعرفة الدين والشريعة الذين جاء بهما الله. فإذا كان لابد من وجود جهود بشرية مختلفة ومتنوعة لمعرفة مكنونات الطبيعة وأسرارها واكتشاف جواهرها، التي هي ثروات غير بشرية، فلماذا يوجد حظر على وجود مثل هذا الاختلاف والتنوع بين البشر في فهم الدين الذي هو في ذاته موضوع غير بشري. وعلى هذا الأساس نستطيع أن ندّعي أن الطبيعة والشريعة موضوعان غير بشريين في ذاتيهما، لكن الجهود المبذولة لمعرفتهما وتفسيرهما واستخراج ثرواتهما ومكنوناتهما هي جهود بشرية جمعية معرفية تسعى إلى تقديم تفاسير للبشر اتكاء على شأن الاختلاف والتنوع الذي يخلق الإبداع. فلولا اختلاف التفاسير بين البشر ولولا التنوع في طروحاتهم ووجهات نظرهم ولولا بشرية الطرح والمنهج والرؤى لما ظهر التطور والتغيير والإبداع في التفسير، سواء تعلق الأمر بالطبيعة أو تعلق بالشريعة.
وبما أن المعرفة، ومنها الدينية، هي حصيلة جهد بشري، فإنها بالتالي سوف تكون باستمرار معرفة ناقصة، بل هي كذلك على الدوام ولا يمكن أن تكون غير ذلك، أي لا يمكن أن تصبح معرفة كاملة ما دام الإنسان مستمرا في هذه الحياة ومواظبا على أداء دوره الرئيسي فيها ألا وهو التفكير. فمثلا من الأسباب التي تجعلنا نؤكد أن المعرفة الدينية سوف تكون على الدوام معرفة ناقصة، أن الأنبياء والرسل الكرام (ومنهم النبي الأكرم محمد) حينما نقلوا الوصايا الدينية التعبدية والتشريعية إلى البشر إنما نقلوها في فترة زمنية محددة، وكان يمكن لتلك الوصايا وبخاصة التشريعية أن تزيد وأن تنقل بكمية أكبر مما تم نقله لو أن الظروف السياسية والاجتماعية حتى الظروف الصحية لحياة هؤلاء الكرام سمحت بذلك. فهناك من آذى الأنبياء وهناك من ساهم في قتلهم، أي وضعت عراقيل عديدة في طريق تبليغ الناس الوصايا الإلهية الأمر الذي ساهم في عرقلة وصول معرفة دينية أكبر وأغنى إلى البشر.
وعلى الرغم من أن الوصايا الإلهية هي حصيلة ما نقله الأنبياء والرسل الكرام إلى البشر في فترة تاريخية معينة، فإن المعرفة الدينية البشرية هي في الأساس وفي الأصل معرفة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتاريخ. فالقرآن الكريم وسنة النبي محمد وأحداث المسلمين وأحوالهم وتاريخهم مرتبطة بسؤال المؤرخين وتدوينهم لذلك، وهذا التدوين لم ينته حتى هذا اليوم وسوف يستمر باستمرار وجود المؤرخين وتطور علم التاريخ وتداخله مع العلوم البشرية الأخرى، وبالتالي لا يمكن كتابة تاريخ quot;جامع ونهائيquot; حول الدين، وسوف تكون المعرفة الدينية باستمرار معرفة ناقصة. فمثلما تغيرت وستتغير معرفة البشر حول الطبيعة وأسرارها، فإن معرفتهم حول الدين والشريعة ستسير أيضا في نفس الطريق وعلى نفس المنوال مما يجعلها باستمرار معرفة ناقصة وغير كاملة إلى نهاية التاريخ.
فإذا كان باستطاعة مؤرخين أن يثبتوا، عبر منهجية علمية معتمدة، أن تاريخا ما يعتبر التاريخ الذي تستند إليه معرفة دينية ما، فذلك لا يعني أن مؤرخين آخرين لن يكونوا قادرين على إثبات أمر آخر مرتبط بتاريخ مغاير حول المعرفة الدينية ووفق منهجية علمية معتمدة أيضا. وبعبارة أخرى، إن فهم الدين، وفق الرؤية التاريخية، هو فهم بشري غير منتهٍ، وبالتالي لا يمكن أن يكون فهما كاملا ونهائيا وإنما هو ناقص باستمرار.
وبما أن علم التاريخ ووسائل بحثه قد تطورت بموازاة تطور العلوم ومناهج البحث الأخرى، فإن من الطبيعي أن يؤثر ذلك في ظهور استنتاجات جديدة بشأن التاريخ، وأن يؤثر ذلك أيضا في فهمنا واستنتاجاتنا للنص الديني الذي يعتبر نصا تاريخيا ومادة من مواد البحث التاريخي. فالمعرفة الدينية، كما يؤكد المفكر الإيراني عبدالكريم سروش، هي quot;حصيلة تفاعل عالم الدين مع النصوص الدينية التاريخيةquot;.
وبما أن المؤرخين لم يصنعوا التاريخ وإنما صنعوا علم التاريخ الساعي إلى فهم وتدوين وتحليل ما جرى من أحداث تاريخية والخروج باستنتاجات حولها، فإن رجال الدين أيضا لم يصنعوا الدين وإنما أنتجوا علوما تفسيرية لفهم الدين، وهو ما يعني أن الفهم والاستنتاج هو أمر بشري وبالتالي لا يمكن أن يكون حكرا على بشر بعينهم (رجال الدين) ولا أن يصبح فهما كاملا ونهائيا ما دام الإنسان قادرا على خلق علوم جديدة يجد من خلالها الطريق نحو فهم ديني جديد ومغاير. فهناك تفاعل بين تاريخ الدين، الذي يشتمل على آيات قرآنية وأحاديث وأفعال نبوية وتصرفات المسلمين، وبين علم التفسير الديني الذي هو ليس علما محددا بعينه وغير ثابت على نهج علمي معين على طول التاريخ، وإنما هو علم يتأثر بالتغيرات والتطورات التي تطرأ على تطور العلوم ومناهج البحث بشكل عام، كما يتأثر بالعلوم الأخرى في عصره، كعلم الاجتماع وعلم النفس في عصرنا، ما يجعل الفهم الديني وتفسير الدين يختلف من عصر إلى عصر، ومن مدرسة تفسيرية إلى مدرسة أخرى وفق استعانة كل مدرسة بعلوم معينة تعينها في التفسير، وكذلك تأثر الفهم العلمي بجملة من العوامل التي تمت الإشارة إليها الأمر الذي يؤكد النتيجة المراد الوصول إليها وهي أن الفهم الديني لا يمكن له أن يصبح فهما نهائيا بل هو باستمرار فهم ناقص.

كاتب كويتي
[email protected]