عشنا فى الإسبوعين الماضيين أجواء ثلاثية الفتاوى القاتلة والتى بدأها المفتى بتحريم التماثيل، وواصلها الداعية حازم صلاح أبو إسماعيل فى برنامج الشريعة والحياة بتحريم مظاهر الإحتفال بالمولد النبوى، ثم ختمها أستاذ أزهرى فى قناة فضائية بتكفير كل من يشارك إخواننا الأقباط فى إحتفالات شم النسيم!، كل هذه الفتاوى وغيرها يجعلنا لانمل من تكرار ماسبق أن أكدنا عليه وهو أنه من المفروض فى فتاوى الفضائيات الدينية أن تكون منارة هادية للمسلمين فى محيط الحياة حتى لايغرقوا فى أمواجه العالية وعواصفه العاتية، ولكن ماحدث فعلاً هو تحول هذه الفتاوى إلى صخرة مربوطة فى أقدام المسلمين تأخذهم إلى حيث القاع السحيق حيث ظلام التخبط والإضطراب والفوضى والخرافة!، تحولت الفتاوى من قارب يصل بنا إلى شاطئ السلامة إلى نداهة تأخذنا إلى سراب الوهم، كنا نعتقدها بوصلة تحدد الإتجاهات فإذا بها تنقلب إلى متاهة تقودنا إلى حيث مثلث الشيطان وبركان فيزوف وبيت جحا وسكة اللى يروح مايرجعش!.
فى عصر الفضائيات وإكتساح الميديا وصناعة النجوم على الهواء مباشرة، كان فى أول طابور صناعة البيزنس الإعلامى، والتنافس على إحتكار الفضاء، والسيطرة على دماغ المشاهد، كان فى المقدمة رجال الدين، لأن تجارة الدين هى الأكثر رواجاً خاصة فى مجتمعات يلعب فيها الدين الدور الأكبر والأخطر وأحياناً الوحيد فى حياة الناس، وقد تزامن إكتساح الفضائيات مع مرحلة مفصلية وهامة فى حياة الوطن العربى كله ألا وهى مرحلة زيادة المد الدينى، وإنتشار حركات التطرف السرية والعلنية، وإحتلال التزمت مقدمة المشهد الإجتماعى، وسيطرة الشكليات والطقوس الهامشية وإعتبارها جوهر الدين، وإعتبار الخلاص الفردى بعقد مع السماء هو الحل، وإهمال الخلاص الجماعى مع أفراد الوطن فى زمن لم يجد المواطنون حكومات تسمعهم على الأرض فراهنوا على السماء!، وتكدس الثروة فى أيدى البعض من محدثى النعمة قليلى الوعى منعدمى الثقافة والتحضر الحقيقى، وإتجاه هؤلاء إلى منح بلادهم صك التفوق وشهادة التميز بإمتلاك فضائيات، كل هذا حدث فى نفس الوقت الذى توارت فيه القضايا القومية والوطنية إلى خلفية اللوحة، وصار التفكير مطارداً، والعقل منفياً، والإبداع رجساً من عمل الشيطان.

كل ماسبق كان هو الفرن الجاهز الذى تم فيه عجن وخبز وطبخ نجوم الفضائيات الجدد من شيوخ معممين أو دعاة كاجوال أو حتى مفسرى أحلام وتجار إعجاز علمى، فريق كامل بالإحتياطى نزل إلى ملعب الفتوى كليب، ليحدث مايشبه الزار الهستيرى فى نايت كلوب صاخب الموسيقى، فتنطلق الفتوى من قناة لتناقضها فتوى على قناة أخرى وأحياناً على نفس القناة والمدهش أنها أحياناً تنطلق من نفس الشخص، فالداعية يتلون فى كل قناة حسب إتجاهاتها ودرجة مرونتها وسقف حريتها، ولكن الضحية المربوطة فى أغلال الريموت كنترول يقلب القنوات وينقلب حاله ويصبح رويداً رويداً مشروع درويش وأحياناً مشروع إرهابى، وكلاهما قنبلة موقوتة ولغم ينتظر الإنفجار فى أى لحظة، ولكن هل المشاهد هو ضحية على طول الخط؟.
إنقلب المشاهد مع هوجة الفتاوى الفضائية من مفعول به إلى فاعل، ومن محترق بنار الفتاوى إلى وقود يؤجج نارها المشتعلة، وحدثت حالة غريبة ومدهشة من هستيريا طلب الفتوى فى كل شئ وفى سفاسف الأمور، وأصيب الشعب العربى من المحيط إلى الخليج بحالة من فقدان الثقة فى النفس والعقل ونكوص طفولى، يتشعلق فى ذيل جلباب بابا الشيخ يسأله كيف يمشى؟ وكيف ينام؟ وكيف يأكل؟ وكيف يجامع؟ وكيف يدخل الحمام؟......وكيف وكيف.....، وتتضخم هذه quot;الكيفاتquot; لتصبح كرة حديدية معلقة فى قدم ورقبة المسلم تشله عن أى حركة إلى الأمام ولاتسمح له إلا بحركة واحدة فقط وهى الجلوس فى مكانه، شئ أشبه بالتمرين الذى كنا نفعله فى تدريبات الجيش وهو الجرى فى المكان، أصبح كل سلوك، وكل فعل، وكل همسة، وكل كلمة، وكل لفتة، وكل فكرة....الخ لابد أن تأخذ ختم الشيخ فلان الفلانى أو الداعية علان العلانى.
إليكم عينة عشوائية من الفتاوى إخترتها لكم من متابعتى للفضائيات العربية والمحلية لنتعرف على الفوبيا التى صارت تتسلط على أذهان الناس والتى تجعلهم يسألون عن أمور من السفاسف، لم أسمع واحداً يتساءل عن متى سنصنع قمراً صناعياً أو نصدر قمحاً؟، أو كيف سنشفى مريضاً عربياً بالهندسة الوراثية؟، أو كم كمبيوتر صناعة عربية 100% موجود فى بيوتنا؟، أو ماهى الأسباب التى تجعل إستيرادنا أضعاف تصيرنا؟....إلى آخر هذه الأسئلة الحيوية، فبدلاً من ذلك نسمع هذه الأسئلة وصدقونى ماسأكتبه ليس كوميديا أو تنكيت ولكنه حقيقة، والأغرب أن الداعية الفضائى يرد بمنتهى الجدية ويفتى بمنتهى الحماس :
ماحكم خلع ملابس الأنثى أمام كلب ذكر؟، هل الموبايل أبو كاميرا وبلو توث حرام أم حلال؟
هل المكوجى الذى يكوى ملابس حريمى من ملابس السافرات كافر؟ ماحكم لبس الشورت الرياضى فوق الركبة للرجال؟ وظيفة البنك حرام أم حلال؟؟؟ والمدهش أن معظم من سمعتهم يوصى هذا الشاب الذى وجد هذه الوظيفة بشق الأنفس بالإستقالة من البنك! ماحكم من مارست الجنس مع زوجها فى سفينة وغرقت السفينة قبل أن تتطهر وتغتسل من الجنابة؟!!!! أقسم لكم أننى إستمعت إلى هذه الفتوى التى سئلت فيها داعية مشهورة على قناة فضائية محلية، هل الشات على الإنترنت خلوة غير شرعية؟، هل مسابقات الإس إم إس حلال أم حرام؟ هل مسابقات كمال الأجسام حلال أم حرام؟ هل يصح أن يكشف الطبيب على مريضة زائدة دودية أم عليها أن تنتظر وصول الطبيبة؟، هل التعرى أثناء ممارسة الجنس حلال أم حرام..................الخ.

فيضان من الفتاوى، وماسورة منفجرة من الإجابات، والحصيلة حيرة وبلبلة وتخبط وتوهان وشلل إبداعى رباعى وتخلف عقلى وردة حضارية، والمصيبة والكارثة أن هذه الفتاوى ليست مجرد شقشقة أو تهتهة فضائية، وليست مجرد ظرف بنكنوت ملئ بالدولارات أو الجنيهات أو الريالات يعطى للداعية بعد خروجه من الأستوديو، ولكن هذه الفتاوى تنقل فيروساً خطيراً يسبب مرضاً رهيباً يأكل أعصاب وأنسجة ومخ ولحم المجتمع بالبطئ، أعراضه رهيبة تتلخص فيمايلى:

*تحويل علاقة الرب بالعبد إلى علاقة إنتقام عنيفة، وخلق ثأر، وصنع جو من التربص الإلهى حاشا لله أن تكون العلاقة كذلك، وتذكروا فتوى الداعية الشهير على قناة الأوربيت بأن إعصار تسونامى إنتقام إلهى برغم الالآف من ضحايا المسلمين الفقراء الذين لم يعفهم دينهم من تشفى الداعية فيهم لأنهم خدموا نشاطاً سياحياً كان يشجع المايوهات!!، وهذا بالطبع يرسم وجهاً قاسياً متجهماً دموياً للدين الذى باطنه الرحمة وجوهره العدل وألا تزرو وازرة وزر أخرى.


*تجريم أنشطة إنسانية وإجتماعية لاغنى عنها فى المجتمع المعاصر مثل البنوك والسياحة والفرجة على الآثار أقصد الأصنام فى بلد فقير كمصر، وبالطبع عندما تجد أناساً يجرمون السياحة فلابد أن تسأل عمن أفتى لهم بذلك، والرد بسيط ومعروف، فلم تعد الفتوى سرية فى جماعة تسكن كهفاً، وإنما هى فتوى على الساتلايت.

*خلق حالة كراهية للعلم والمنهج العلمى فى التفكير، فكل مايأتى به العلم من تقدم مثل الهندسة الوراثية والإستنساخ ونقل الأعضاء والإنترنت...الخ رجس من عمل الشيطان علينا أن نجتنبه، وأى سقوط لمكوك فضائى أو إنتشار وباء فى الغرب هو يوم فرح عارم بالنسبة لتجار الفتاوى الفضائية.
* زرع بذور الفتنة الطائفية بين أبناء الوطن الواحد من مسلمين وأقباط، والأمثلة كثيرة أهمها الفتوى التى تمنع مصافحة المسيحيين والتضييق عليهم فى الطرقات وعدم دخولهم الجيش وعدم الإحتفال بشم النسيم، مما يخلق علاقة غربة وريبة وتوجس وتحفز وعدوانية بين المسلم وأخيه المسيحى.

**قديماً كانت الفتوى تشتق من الإفتاء أى الهداية بإعطاء الرأى السديد أما الآن فهى تشتق من التفتيت، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يقينا شر التفتيت وبيزنس الفتاوى وتجارة الدين.
[email protected]