تراجيديا المشهد السياسي في العراق قد أصابت بشظاياها العديد من الثوابت التي كانت قائمة في الساحة العراقية، فإنفجار الوضع الداخلي ووصول البلد لحافة الحرب الأهلية، وشيوع التصفيات المتبادلة للحسابات العشائرية والطائفية والعقائدية والشخصية كلها أمور كانت متوقعة وحدث مايماثلها في بلدان عربية وأجنبية كثيرة عاشت مرحلة الإنتقال من مرحلة لمرحلة مع مايقتضي ذلك التحول التاريخي من أثمان واجبة الدفع وهو الأمر الذي حصل في مصر والجزائر والمغرب خلال السنوات الأولى للإستقلال وحيث برزت الحركات والجماعات الإنفصالية والقادة الطموحين وتعالت المطالبات الإثنية مطالبة بالعدالة وتقسيم السلطات وكما حصل في حركات الجنوب والشمال المغربية إبتداءا من عام 1955 وحتى عام 1959 والتي إستطاع الجيش المغربي في النهاية حسم الموقف وتأكيد وحدة البلد والشعب وحماية الدستور والمقدسات والثوابت، أما في العراق الملتهب ومايدور فيه اليوم من مآسي وماتسفك فيه من دماء فهو عملية بشعة وإجرامية كان مخططا لها وبدقة من خلال المنظومات السرية والإرهابية للنظام البعثي البائد الذي كان يعمل ويراهن وينتظر يوم الإنتقام من الشعب العراقي عبر تفكيكه وتزنيره بفرق الموت الظلامية والطائفية والإرهابية، بعد أن أجهز على ماضيه وحاضره ومستقبله وأشاع الخراب النفسي والإقتصادي والسلوكي في جميع مناحي الحياة العراقية طيلة مايقارب العقود الأربعة من الحكم والتسلط الفاشي الذي إنتهى بإحتلال عسكري أميركي ودولي وخراب ستمتد تأثيراته لأجيال وأجيال، وفتت الهوية الوطنية، وأعاد قيم العشائرية والطائفية وكل صور التخلف الذي يعيشه العراقيون حاليا !، ولكن الظاهرة الأخطر في التشكيلة العراقية هي تسييس الدين والمذهب وجعله الأساس الحركي والمقابل الموضوعي لحالة الحراك السياسي والإجتماعي وإستغلاله أبشع إستغلال في حروب قذرة ومصالح طائفية ضيقة ومطامح شخصية مريضة، ولعل ظاهرة المليشيات الدينية والطائفية المسلحة هي خير تعبير عن شيوعية تلك الحالة الشاذة في الواقع العراقي الجديد، والصراع الحاسم القائم حاليا بين سلطة الدولة العراقية الشرعية وإرهاب المليشيات الطائفية المتخلفة المسلحة قد أفرز ذيولا وإمتدادات خطرة للغاية لإستغلال الدين في تصفية الحسابات وفق نظرة ذئبية وشيطانية تستغل الأحداث والتطورات لتتسلل وتفرض واقعا مأساؤيا جديدا يطيل من عمر الأزمة العراقية ويبدد كل الجهود الوطنية الحثيثة لقيامة عراقية جديدة على أنقاض الفاشية البعثية البائدة التي زرعت وأسست لحالة الخراب شبه الشامل التي نراها حاليا، ولعل ( الفتوى) الجديدة التي أصدرتها ماتسمى ب ( هيئة علماء المسلمين في العراق) والتي تدعو العراقيين جميعا لدعم ومؤازرة عصابة المختل الفاشي مقتدى الصدر وجيشه اللصوصي البدائي هي بمثابة الدعوة الواضحة والمباشرة لتقويض الحكومة العراقية المؤقتة والمشاركة المباشرة في عملية تفتيت العراق وتجزأته إثنيا وطائفيا وزرع بذور الموت والخراب في الشارع العراقي والإعداد العملي والحاسم لأكبر نكبة يمكن أن تحل على رؤوس العراقيين عبر سيادة الفوضى ! وبهذه الفتوى العدوانية الصريحة والتي لن يلتزم بها أحد بكل تأكيد فإن هيئة العلماء المسلمين والتي تشكلت بعد سقوط النظام قد كشرت عن أنيابها وأبانت عن روحيتها الفاشية وعن طبيعة الأهداف التخريبية التي تعمل من أجلها تحت غطاء الدين والشريعة ورعاية أهل السنة والجماعة!! وهي جميعها إدعاءات باطلة لأن شيوخ مسجد ( أم المعارك) لم يكونوا يوما من المعروفين بتصديهم للفاشية البعثية الإرهابية وهي تزرع الموت في كل مناحي الحياة في العراق طيلة أربعة عقود! وهي في الوقت الذي تدعو فيه لمناصرة مقتدى وعصاباته قد غض رجالها الطرف تماما عن مصرع والد مقتدى وأشقاؤه في عام 1999 على يد البعثيين وكأن الأمر لايعنيهم من قريب أو بعيد؟ كما أن رجال الهيئة من معممي المخابرات العراقية وهيئة الأمن القومي لم يستمعوا أو يتضامنوا مع نداءات الشهيد محمد باقر الصدر الذي أعدم وشقيقته بنت الهدى لطريقة بشعة في التاسع من نيسان 1980 ( وهو نفس تاريخ سقوط صدام بعد عقدين ونيف)!! ولم يصدر أحدهم فتوى ملزمة بقتال طاغية العراق البعثي وقتذاك ؟ فأين كانت حميتهم الإسلامية ؟ وأين كانت روحيتهم الوطنية التي تعلو وتسمو على الطائفية؟ وأين كانت عنتريات خطباؤهم وهي التي تباشر اليوم كل معاني الدس والخبث واللؤم المبرمج وحيث يتباكون على ( شيعة العراق والنجف) ويذرفون دموع التماسيح بينما الحقائق المعروفة للعراقيين جميعا تؤكد عكس ذلك تماما بل وتنسجم مع المخطط الإخواني والأصولي بزرع الفوضى في المنطقة والإستفادة من كل عناصر التوتر بتقويض الأنظمة في المنطقة وتحقيق حلمهم الأكبر والطوباوي بإقامة دولة ( الخلافة ) الخرافية المستحيلة عصريا تحقيقها وبتشييد المجتمعات الحديثة على الأسس الطالبانية السوداء؟ إنها فتاوي النفاق المكشوفة الدوافع والأهداف والفاقدة لأي قيمة حقيقية أو شرعية لأن من أصدرها لايمتلك الأهلية ولاالمشروعية ولا النقاء الطائفي والسياسي الموضوعي الذي يتيح له المساس بالقضايا الحيوية والمركزية، وحدة العراق فوق كل المرجعيات، وحرية العراق تسمو فوق كل العمائم أيا كان لونها وطريقتها، والعدالة ستسود في أرض الرافدين لتجعل من أحلام تجار الدين والطائفية مجرد كوابيس مزعجة في ليل بهيم سينقشع عن حياة العراقيين لامحالة.

[email protected]