للتفسير الديني هوية جمعية، بمعنى انه لا يمكن ان ينحصر أو ينتهي عند حدٍ معين تحدث عنه مفسر من المفسرين أو عبرت عنه مدرسة تفسيرية معينة تتبع مذهبا من المذاهب أو طائفة من الطوائف. فلكي يكون التفسير عضوا في نادي المعرفة الدينية عليه ان يقبل جميع شروط العضوية في هذا النادي، التي من ضمنها ان تكون هوية التفسير quot;هوية جمعيةquot;، أي عليه ان يقر بأن العضوية فيه ليست فردية، ولا تخص فقط اصحاب التفاسير الصحيحة، كما انها تعبّر عن رؤى بشرية نسبية وغير مطلقة. وعليه فإن أي تفسير للدين والشريعة الإسلامية منتم للمعرفة الدينية ما هو إلا تفسير واحد ضمن مجموعة كلية من التفاسير التي ظهرت في الماضي والحاضر وسوف تظهر في المستقبل. وبالتالي لا يمكن الإقرار بوجود عضو واحد فقط أو عدة أعضاء محددين في نادي المعرفة الدينية، وإنما هناك مفسرون مختلفون من البشر الخطّائين وتجمعهم في هذا النادي الهوية الجمعية. والهوية الجمعية لأي معرفة لا تخص فقط المعرفة الدينية وإنما تخص جميع المعارف التي اكتشفها الإنسان.
وحسب المفكر الإيراني الدكتور عبدالكريم سروش فإن المعرفة الدينية هي quot;جهد إنساني جمعي لفهم الشريعة الإسلاميةquot;. اي ان دين كل شخص ينبع من فهم الشريعة، وهو فهم مرتبط بمدرسة تفسيرية بشرية خاصة ضمن مجموعة جمعية من التفاسير تشكل ndash; كما قلنا - المعرفة الدينية. أي ان quot;إدراك الناس للشريعة هو غير الشريعةquot;. والإدراك هنا - حسب سروش - مرتبط بمطابقته مع الواقع. وبالتالي كل تفسير ديني، وفق صاحبه ومفسره، قريب من إدراك الواقع، وذلك ليستطيع ان يصف تفسيره بانه صحيح او قريب من الصحة.
لكن، ماذا لو عارضت المذاهب والطوائف الإسلامية بمدارسها التفسيرية المختلفة وجود تلك المعرفة الدينية الجمعية، وفي المقابل وصفت ما تعرضه من كلام ديني وما تفسره وتشرحه وتتفقّه فيه بأنه عين الدين وحقيقته المطلقة، ورفضت أي حديث عن فهم بشري نسبي متنوّع وجمعي حول الدين. وكيف، وفق ذلك، يستطيع البشر ان يتصرفوا ازاء موضوع تعددية الطوائف الإسلامية والمذاهب الدينية واختلاف عقائد الناس وتنوع طقوسهم الإيمانية؟ وكيف يمكنها ان تهضم قضية تنوّع المدارس الدينية المذهبية والطائفية واختلاف تفاسيرها حول الفقه وعلم الكلام وعلم التفسير وعلم الاخلاق وغيرها؟ إذن، لابد من ايجاد حلول لهذه القضية (المعضلة) التي تقوم على رفض تعددية الفهم الديني وتفسير الشريعة والعقائد والأصول واختلاف الطقوس، وما ينشأ جراء ذلك من خلافات مذهبية وطائفية وسياسية واجتماعية، وصلت الأمور خلالها إلى رفض مبدأ التعايش بين ابناء المجتمع الواحد والبلد الواحد وظهور مشاكل تتعلق بعدم قبول عقيدة الآخرين وتكفير المختلفين وتحقير طقوسهم، ورفض التزاوج والتعايش بين ابناء الديانات والمذاهب والطوائف المختلفة، بل وصل الأمر في الخلافات السياسية الدينية حدا أدى الى اندلاع ما يشبه الحرب الاهلية بسبب هيمنة مفهوم الحقيقة الدينية المطلقة مقابل الكفر الديني المطلق، وباتت تلك الحرب تفتك بالمجتمع، وهو ما نراه يحدث راهنا في العراق.
فهناك استنتاج يستند إلى أساس يقول إن الصراعات السياسية والاجتماعية بين الفرقاء الدينيين (وغير الدينيين ايضا) واستخدام العنف وممارسة الإلغاء المستند إلى التفسير الديني ضد الآخر بوصفها صراعات تنتشر في المجتمعات العربية والإسلامية، يرجع أصلها إلى سلوك وممارسات التشكيلات السياسية الحزبية في الواقع على الأرض حيث لم تستطع قبول الآخر المختلف سياسيا وبالتالي فشلت في جعل التعايش السياسي جزءا من ثقافتها. غير ان المشكلة لا تكمن في هذا الأساس، فهو نتيجة لأساس آخر ولمشكلة اكبر، متمثلة في ان كل طرف ديني يعتقد بأن رؤاه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المرتبطة ارتباطا وثيقا بالتفسير الديني العقائدي، هي رؤى مطلقة فوق بشرية وغير قابلة للتراجع إلا وفق شروط ضيقة جدا. فإذا لم تعالج قضية التفسير الديني المطلق وفوق البشري معالجة كلامية جذرية تتفق مع قيم الحداثة ورؤى الحياة الجديدة، ويتم تحويله إلى تفسير نسبي بشري شأنه شأن جميع التفاسير غير الدينية المنضوية في إطار المعارف البشرية بحيث يتعايش بصورة جمعية مع التفاسير الدينية الأخرى، فإننا لا نستطيع معالجة المشكلة المزمنة في الخطاب الديني المتمثلة في رفض التعددية الدينية وغير الدينية وعدم قبول التعايش مع الرأي الآخر ورفض احترام حقوق الإنسان الفرد. فحل معضلة تعددية التفسير الديني من شأنه ان يساهم بشكل كبير في حل معضلة التعددية السياسية والثقافية والاجتماعية بين جميع الفرقاء الدينيين وكذلك مع غير الدينيين، ذلك ان التعددية القائمة على بشرية الفهم ونسبيته تختلف كليا عما يعتقده طرف ديني ما بأن تفسيره للدين ونظرته العقائدية للحياة هو تفسير فوق بشري ومطلق.
ويطرح سروش خمس نقاط لجعل تفسير ديني ما قابلا للتعايش مع التفاسير الأخرى ضمن أجندة الهوية الدينية الجمعية التي تتكون منها المعرفة الدينية: 1- انه يعتبر أن الدين لا تناقض فيه ولا اختلاف، اما المعرفة الدينية فتتضمن تناقضا واختلافا. 2- انه يعتبر أن الدين حق كله، اما المعرفة الدينية فهي مزيج من الحق والباطل. 3- انه يعتبر أن الدين كامل، اما المعرفة الدينية فليست كاملة ولن تكتمل ما دام الإنسان يعيش في هذه الدنيا ويفكر ويفسر. 4- انه يعتبر أن الدين خال من الثقافات البشرية التي تدخل إليه عبر عقول البشر، اما المعرفة الدينية فهي ممزوجة بتلك الثقافات ولا يمكن أن تعيش من دون هذا المزج. 5- انه يعتبر أن الدين ثابت، اما المعرفة الدينية فهي متغيرة.
كاتب كويتي
[email protected]
التعليقات