الأربعاء:08. 02. 2006

د. خالد الدخيل


يوم أمس الثلاثاء دخلت على موقع صحيفة ''يولاند بوستن'' الدنماركية التي نشرت قبل أربعة أشهر الرسوم الكاريكاتورية المعروفة الآن عن النبي محمد عليه الصلاة والسلامmiddot; بدا لي مباشرة أن هناك تغيرا ما في دعوة الصحيفة الملحة والبارزة للعرب والمسلمين، وباللغتين العربية والإنجليزية، لقراءة رسالة اعتذار في الداخل عما تسبب به نشر تلك الرسومات من إساءة للمسلمينmiddot; احتفظت الصحيفة، كما يبدو لي (لم أتابع الصحيفة منذ بداية الأزمة) بهذه الدعوة لفترة ليست بالقصيرة في المكان نفسه، أعلى الصفحة الأولىmiddot; اللافت في صيغة الاعتذار التي رأيتها في عدد أمس أنها اختلفت عما كانت عليه يوم الأحد الذي قبله، وأعني تحديدا الصيغة العربية للاعتذارmiddot; في صيغة الأحد لم ترد كلمة ''الاعتذار''middot; بدلا من ذلك تم اللجوء إلى كلمات مثل ''نأسف''، ''ويؤسفنا''، أو ''نعبر عن بالغ أسفنا'' لما حدثmiddot; الصيغة الثانية جاءت مباشرة تماما، وتمثل اعتذارا واضحا وأسفا حقيقيا، ليس على نشر الرسومات، ولكن على ما تسبب به هذا النشر من إساءة للمسلمينmiddot; وقد تم استخدام كلمة الاعتذار ثلاث مراتmiddot; رسالة الاعتذار كانت باسم رئيس تحرير الصحيفة، وتوقيعهmiddot;
جاءت صيغ الاعتذار كما يلي: في البداية قالت الرسالة، ''نحن نعتذر على سوء التفاهم الكبير الذي حصل حول الرسوماتmiddot;middot;middot; وأدى إلى نمو مشاعر العداء للدنمارك والدنماركيينmiddot;middot;middot;''middot; وفي سياق تأكيد الصحيفة على الهدف الرئيس من نشرها للرسومات تقول: ''لكن هذه الرسومات أساءت كما يبدو إلى ملايين المسلمين في كل أنحاء العالم، ولذلك نحن الآن نقوم بتقديم اعتذارنا وأسفنا العميق لما حدث، لأن هذا بعيد كل البعد عن قصد الصحيفةmiddot;middot;middot;''middot; ويختم رئيس التحرير الرسالة بالقول، ''أخيرا، دعوني، وعلى لسان يولاند بوستن أعلن اعتذاري عما حدثmiddot;middot;middot; واستنكاري الشديد لأية خطوة تستهدف النيل من أديان، وقوميات أو شعوب معينةmiddot; وكلي أمل بأن أكون بهذا قد أزلت سوء التفاهمmiddot;middot;middot;''middot;
هل هذا يكفي؟ نعم يكفي، خاصة وأن الصحيفة اتبعت في تغطيتها للأزمة إسلوبا هادئا، ومحايداmiddot; لم تلجأ إلى صياغة أخبار المقاطعة العربية، والمظاهرات، وحرق السفارات بإسلوب يهدف لتهييج الشعب الدنماركي ضد العرب والمسلمينmiddot; على العكس ابتعدت عن ذلك بشكل واضح ومقصودmiddot; ولعل هذا كان أحد الأسباب في أن بعضا من آلاف الدنمركيين الذين تظاهروا في كوبنهاجن الأسبوع الماضي، رفعوا لافتات كتب عليها كلمة (عززدس) أو (نأسف)، تعبيرا عن اعتذار شعبي لنشر الرسوماتmiddot; هذه إيماءة عبر من خلالها الشعب الدنماركي عن تفهمه للألم الذي شعرت به الشعوب الإسلامية، وهي إيماءة تستحق التقديرmiddot;
ربما قيل إن اعتذار الصحيفة ليس اعتذارا عن نشر الرسومات، وإنما عن سوء الفهم الذي حصل لدى المسلمين بسبب الرسومات، وإن الصحيفة بهذا التمييز تصر على أن نشرها للرسومات كان أمرا لا غبار عليه، وليس فيه ما يدعو للاعتذارmiddot; هنا تتداخل مجموعة من العوامل: الاختلافات الثقافية، والتباينات السياسية، والتحيزات الأيديولوجية بين المسلمين من ناحية، والأوروبيين- الدنماركيين في هذه الحالة- من ناحية أخرىmiddot; الإصرار على أن يأتــي اعتـــذار الصحيفـــة عن نشر الرسومـــات تحديـــدا فيه تجــاوز للحدود الثقافية بين المجتمعات، وما تنطوي عليــــــــه مـــــن اختلافــــات فـــــي القـــيم والمعايـــــير وتباينـــــــــــات فــــــــــــــــــي الــــــرؤى والقناعـــاتmiddot;
يؤمن الأوروبيون، ومنهم الدنماركيون، بالعلمانية وبحرية التعبيرmiddot; والدليل أن السيد المسيح نفسه ليس استثناء هناmiddot; حيث تم إخراج افلام سينمائية عنه ظهر فيها كبشر عادي، وبما يتنافى بشكل صارخ مع صفته الإلهية التي يؤمن بها المسيحيونmiddot; وكانت هناك رسومات للمسيح بأوضاع لا تتناسب مع صفته كنبي مرسل، وشبيهة في إساءتها لما حصل في الرسومات التي نشرتها صحيفة ''يولاند بوستن''middot; هذه بعض أمثلة على طبيعة الثقافة الأوروبية، وعلى ما ترتكز عليه من قيم ومفاهيم تختلف تماما عما كانت عليه في العصور الوسطى، وماهي عليه الثقافة العربية الإسلامية في وقتنا الحاضرmiddot; وهذا اختلاف يجب احترامه، لأن الاختلاف بين الثقافات هو أحد أهم نواميس الوجود الإنسانيmiddot; ومن دون هذا الاحترام لن يكون هناك مجال لحوار الثقافات ولا للتواصل الإنسانيmiddot;
من هذه الزاوية، الأرجح أن الإصرار على أن يأتي اعتذار الصحيفة الدنماركية عن عملية نشر الصور ذاتها، وليس عما تسببت به وحسب، سيفهم على أنه محاولة لفرض قيم ثقافية تخص العرب والمسلمين على الدنماركيينmiddot; وهنا قد تصل القضية، أو الأزمة إلى طريق مسدودmiddot; ليس المطلوب أن يقتنع أحد الطرفين بمقدسات ومحرمات الطرف الآخرmiddot; المطلوب هو أن يحترم كل طرف ما لدى الطرف الآخر من هذه المقدسات والمحرماتmiddot; وإذا تحقق هذا، فالأغلب أن صحيفة ''يولاند بوستن'' وغيرها من الصحف الأوروبية، والغربية عموما لن تقدم مستقبلا، وبعد كل ما حدث، على نشر رسومات أو صور مسيئة للإسلام، أو لأي من رموز الإسلامmiddot; والجدير في هذا السياق ملاحظة أن كثيرا من الصحف الغربية، الكبيرة منها خاصة، رفضت إعادة نشر رسومات ''يولاند بوستن''، وذلك على عكس ما قامت به بعض الصحف الأوروبية الأقل حجما وسمعة، وتحديدا اليمينية منهاmiddot; الصحف البريطانية، مثلا، كلها رفضت إعادة النشر، وكذلك الصحف الأميركيةmiddot;
وقد كتبت صحيفة ااـ''غارديان'' البريطانية افتتاحية يوم السبت الماضي لتبرير عدم نشر الرسوماتmiddot; حيث قالت الصحيفة اليسارية: ''الغارديان تؤمن من دون تردد بحرية التعبير، ولكن ليس بالإساءة دون مبررmiddot; إعادة نشر صور لا قيمة لها في حد ذاتها، وتهدف إلى إثارة أسوأ أشكال التحامل لدى الأوروبيين ضد المسلمين، سيكون عملا استفزازيا ليس له ما يبرره''middot; هذا موقف مسؤول، يرسم خطا فاصلا بين مبدأ حرية التعبير من ناحية، وطريقة استخدام هذا الحق بما قد يؤدي إلى الإساءة للآخرين، من ناحية أخرىmiddot; والأرجح أن الصحف الأخرى التي رفضت إعادة نشر الرسوم انطلقت من الموقف ذاتهmiddot; يجب الالتفات إلى مثل هذه المواقف العقلانية والمستنيرة، وتقديرها وليس التركيز على مواقف صحف وكتاب يعكسون أسوأ مافي الثقافة الأوروبيةmiddot;
تمييز الـ''غارديان'' بين حرية التعبير كقيمة ثقافية وكمبدأ دستوري، وبين طريقة استخدامه، خاصة في موضوع المقدسات والمحرمات عند الشعوب على اختلافها، مهم هناmiddot; وعندما تستمع إلى أطراف الأزمة الناشئة بسب الرسومات يتضح أنها قضية تعود في أساسها إلى مسألة العلاقة بين حرية التعبير من ناحية، وحساسية المقدس من ناحية أخرىmiddot; الصحيفة الدنماركية فشلت في البداية فشلا ذريعا في التمييز بين القضيتين، وفي أهمية الاعتراف بالاختلافات الثقافية بين الشعوب، وضرورة مراعاة الحساسيات المرتبطة بهذه الاختلافاتmiddot; بل إن إقدامها على نشر صور مسيئة للنبي محمد (ص) لا يمكن فهمه على أنه ممارسة مسؤولة لحرية التعبيرmiddot; بل كان على العكس من ذلك، لأنه تجاهل أبسط المبادئ التي يجب أن تحكم الحق في التمتع بحرية التعبير، وهو عدم الإساءة للآخرين، أو التورط في أي شكل من أشكال الاستعلاء عند ممارسة هذا الحقmiddot; والحقيقة أن الصحيفة الدنماركية تورطت في خرق هذا المبدأmiddot; في رسالتها الاعتذارية المذكورة أشارت إلى أن القصد من نشرها للرسومات كان، ''مدخلا للحوار حول حرية التعبير عن الرأي التي نعتز بها في بلادناmiddot;middot;middot;''middot; وهذه مغالطة مشوبة بالمكابرةmiddot; فالإساءة لا يمكن أن تكون خطوة في اتجاه الحوارmiddot; على العكس هي خطوة في اتجاه آخر كشفت عنه الأزمة التي تعصف الآن بالعلاقات الدنماركية مع العالمين العربي والإسلاميmiddot; في المقابل، وفي الرسالة ذاتها اعترفت الصحيفة بالخطأ، وقدمت الاعتذارmiddot; اجتماع المكابرة مع الاعتذار في الرسالة يعكس حالة من الارتباك، وهي حالة يجب تفهمها، والانطلاق منها لتجاوز ما حصل، ووضع حد لتدهور العلاقات بين الطرفينmiddot;
من ناحية ثانية إذا كان العرب والمسلمون يطالبون الأوروبيين باحترام مقدساتهم، وهو مطلب محق، يجب عليهم أيضا احترام مقدسات الأوروبيين الدينية والدستورية، والكف عن التهجم والدعاء عليهم في خطب الجمعة، ودعوات القنوتmiddot; كذلك يجب على العرب والمسلمين الاعتراف بما يتمتع به الأوروبيون من حريات سياسية وفكرية، واحترام التزامهم بمبادئ الدستور والقانون، وهي أمور يفتقدها العرب المسلمون في حياتهم، وفي أنظمتهم السياسيةmiddot; احترام المقدسات لا يعني أبدا تبرير غياب الحريات، وغياب الالتزام بمبادئ الدستور والنظامmiddot; الأزمة تقدم درسا مهما للجميع، للأوروبيين وللعرب والمسلمين في الوقت نفسهmiddot;