أجدني في الغالب غير ميال الى تناول الشؤون العربية فيما اكتب إلا في حال تعالقها واشتباكها مع الشأن السوري. وعليه لم أخض إلا نادراً في الشأن الفلسطيني كتابةً، رغم أننا (كسوريين) تحضرنا فلسطين في حواراتنا وندواتنا وأدبياتنا أكثر بكثير مما يحضر جولاننا (الحبيب)، ولمن لا يعرفه من السوريين فهو أرض سورية تحتلها إسرائيل،إذ ربما يرد كسؤال في أحد المسابقات الرمضانية لإحدى القنوات الفضائية المعادية لسورية (كالمستقبل اللبنانية التي وصفتها جريدة سورية "مستقلة" بهذا الوصف )، إذ اذكر أنني دعيت مرة لمؤتمر لاتحاد الطلبة السوريين في أثينا، ولم يفاجئني يومها أن كل التقارير المُناقشة بما فيها التقرير السياسي!! والخطب المنبرية لم تذكر الجولان.. بل فاجأتني دهشة الجميع حضوراً ومؤتمرين وكان من بينهم سفيرتنا هناك (كانت قائمة بالأعمال حينها) حين ذكرتهم بها...
ويمكن لأي قارئ للوضع السوري أن يقول إن النظام السوري بكل وسائل إعلامه جعل الجولان في آخر اهتماماته بل إنه لا يريد أن يتذكره أو يذكره (لأسباب عديدة ومعلومة ?: منها كي لا تتبدد خرافة نصر حرب تشرين التي تم فيها تحرير الأرض والإنسان وكسر اسطورة الجيش الذي لا يقهر، والتي نحتفل بذكراها الآن)
وما يجعلني أخوض في الشأن الفلسطيني اليوم (وليعذرني كل فلسطيني) هو تصريح مصدر إعلامي رسمي (سوري) تعليقاً على الأحداث المؤسفة في غزة? بـ(إن هدف «إسرائيل» هو خلق فتنة بين أبناء الصف الواحد وإضعاف الجميع بما يمكنها من استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية وفرض سياساتها على الشعب الفلسطيني(. وكذلك ?افتتاحية جريدة تشرين الحكومية لهذا اليوم " 4/10/05 " والتي كانت بعنوان "... الخط الأحمر" والتي تحدثت بالرطانات القومية المعتادة عن العدو ووحدة الصف و... لتذكرنا وتذكر الأخوة الفلسطينيين بأن (القضية الفلسطينية تظل قضية العرب المركزية) وهذا يعني أن ينام الفلسطينيون مرتاحي البال ويضعوا أرجلهم بماء بارد ولا مانع أن يشربوا؟ سفن أب وهم يرفهون عن أنفسهم بمشاهدة برنامج المنوعات "غداً نلتقي" على قناتنا الأرضية؟ أو يثقفوا أنفسهم بقراءة جريدة تشرين الغراء التي لها " نهفات " عجيبة لا تخطر على بال مخلوق إذ إن موقعها الالكتروني ذكر ذات يوم أن آخر تحديث للصفحة تم في الساعة 6من صباح يوم 32 /1!!! والى اليوم لا اعرف كيف تم هكذا تحديث لأني اجزم انه لو كان كتابة وقت وتاريخ التحديث يتم أليا لاستحال حدوث هذا.
إن تصريحات مصدرنا الإعلامي وافتتاحية جريدتنا الحكومية يجعلني أهرف بما أعرف عن حرب!!غزة الأخيرة، فما لا يعرفه هذا المصدر الإعلامي السوري (والذي هو عادة غير مطلع على عكس المصادر الاعلامية الأخرى ) ولا جريدة تشرين الموقرة أن هذه الحرب بدأت عند طابور من الموظفين أمام بنك فلسطين ( شارع النصر) اسطفو لاستلام رواتبهم وتدافع شخصان على الدور أحدهم من حماس والثاني من فتح اشتبكا بعدها وذهب كل منهم وأحضر (المليشيا) المساندة له وتحول الأمر الى حرب شوارع أسفرت عن ثلاثة قتلى وما يقارب خمسين جريحاً، ليتحفنا بعدها (النزال) الناطق باسم حماس ?بتصريح حماسي معلناًعن وجود تياراستئصالي داخل السلطة يسعى لاستئصال حماس، وليحتل خطباء حماس شاشات الفضائيات العربية منددين ومستنكرين سعي السلطة لنزع سلاحه المقاومة المقدس ويرد مسؤولو السلطة بأن حماس نقضت التفاهمات الأخيرة بما فيها اتفاق القاهرة..
وقد ذكر لي أكثر من صديق من غزة (من خارج الفصائل ) أن هذه الحرب يمكن أن تحدث? بسبب صباح الخير يقولها عابرٌ لأحد كوادر حماس فلا تعجبه هذه التحية فيذهب مُحضراً الـ آر بي جي ليرد على هذه التحية التي قد تكون ترافقت مع تقيب جبين، وليلقنه درساً في، كيف يلقي التحية على أحد كوادر حماس!!
حينما انسحبت إسرائيل من غزة مستجيبة لأجندة داخلية وخارجية، و تم تحويل هذا الانسحاب الطوعي من إسرائيل من قبل قناة الجزيرة والمناضلون القوميون العرب وحماس أيضا الى نصر عربي مبين دون أن يرف لهم جفن، أُعطيَ الفلسطينيون فرصة ليثبتوا للعالم أنهم قادرون على بناء دولة ومؤسسات، وأنهم قادرون على إدارة مصيرهم الذي ما فتئوا يطالبون العالم وإسرائيل بحق تقريره.
وفي ظل سلطة عاجزة على فرض هيبة القانون وجعله فوق الجميع مهما كانت النتيجة لجأت الى" التفاهمات" مع الفصائل ?لنبذ المظاهر المسلحة، وهذا يعني إبقاء السلاح كاملاً في أيدي الجميع ليستخدم لا حقاً في أي صباح خير لا تعجب أحداً ما. إن هذا جعل الشارع الفلسطيني الذي خارج الفصائل المسلحة يتساءل عن سبب بقاء هذا السلاح وعن السبب الذي يجعله مقدساً بعد انسحاب إسرائيل من غزة ؟؟، ويرى إن إطلاق عدد من " الفتيشات " من غزة على إسرائيل لا تصيب أحداً ولا تلحق حتى أضراراً مادية، سيكون نتيجتها بكل تأكيد غارة وقصف وربما اجتياح إسرائيلي لغزة يهدم منازلاً ويخلف أضراراً وأشلاءً متناثرة لقتلى ونواح ثكالى.
وهذا يجعلنا نشتبك مع الشرعية الأخلاقية لهذا السلاح ومع الشرعية النضالية له ومع الشرعية التحريرية له أيضاً، فلا يوجد مبرر أخلاقي لاستخدام هذا السلاح ضد إسرائيل? انطلاقاً من غزة مع معرفة نتيجة هذا الاستخدام المسبقة التي ستكون قتل المزيد من الفلسطينيين ?وتدمير المزيد من بيوتهم عبر الرد الإسرائيلي، وتنتفي أيضاً شرعيته النضالية لأنه لم يعد قادراً على التأثير على موازين القوى على الأرض مع إسرائيل(إذا سلمنا تجاوزاً بقدرة هذه السلاح على أن يكون مؤثراً في الضفة الغربية ) وتنتفي شرعيته التحريرية أيضاً بتحرر غزة من الاحتلال ولنسلم أيضاً مع من يشاء بأن الكلفة العالية التي كبدها هذا السلاح لإسرائيل!! هي التي دفعتها للانسحاب.
يمكن القول إن بقاء السلاح بين يدي الفصائل الفلسطينية في غزة لم يعد له من وظيفة سوى للحصول على الدور أولاً أمام فرن أو بنك وسيجعل من هذا السلاح عرضة لامتدادات خارجية تسعى لتوتير الداخل الفلسطيني لمصالح يأتي في آخرها فلسطين.
إن السلطة رغم العجز الذي تعاني منه والذي أبرز أسبابه ما تعرضت له بنيتها من تفكيك على يد إسرائيل، مطالبة أن تجعل من غزة نموذجاً? قادراً على كسب التعاطف الدولي والذي هو السند الرئيس لها في متابعة مشوارها التفاوضي الطويل مع إسرائيل وليس الدول العربية التي تذكرهم أن فلسطين لا زالت قضيتنا المركزية، والرئيس الفلسطيني محمود عباس يدرك هذا جيداً، إذاً لا مناص من تجريد الفصائل الفلسطينية من سلاحها في غزة والذي ?فقد مبررات وجوده واصبح استخدامه سبباً لإراقة الدماء الفلسطينية ومن ثم التباكي عليها وإشاعة الفوضى التي تتيح لأيٍ يشأ أن يمارس فلتانه ويصنع لنفسه دوراً على الأرض وتتيح له أن يفرض شروطاً بسبب هذا السلاح تخالف رغبة غالبية الشارع الفلسطيني، وقد كانت الانتخابات الأخيرة مؤشراً حقيقياً على الحجم الشعبي لهذه الفصائل (حماس والجهاد معاً ) وتالياً فهي تنتزع عبر السلاح ما تعجز أن تنتزعه عبر صناديق الاقتراع.
ويمكن إدراك الحرج الإعلامي لإعلان السلطة أن وجود السلاح بين أيدي الفصائل في غزة لم يعد مبرراً، ويمكن لقرار كهذا أن يفتح جبهة واسعة بين السلطة وحماس، تداريها السلطة الآن عبر "التفاهمات" لكن إذا أرادت السلطة أن تبني نموذجاً في غزة يحرج اسرائيل أمام العالم ويقودها الى طاولة المفاوضات ستجد السلطة نفسها عاجلاً أم اجلاً أمام هذا القرار الصعب والمصيري أيضاً، لكن كلما تم تأجيله كلما تسبب بإسالة مزيداً من الدم الفلسطيني والحق مزيداً من الدمار وعرقل سعي الفلسطينيين لتقرير مصيرهم. إذاً فلتعذرنا حماس أن نرى أن هذا السلاح لم يعد مقدساً.

[email protected]