إذا أريد لقراءة ان تكون فاعلة في اعادة رسم أسس الفكر العربي عليها ان تنهض بمسألة أساسية وهي تفكيك المقدس وإخضاعه لشرطه التاريخي ونفي إطلاقيته التي أعاقت هذا الفكر عن أن ينمو بوصلة واحدة منذ تشكله البدئي الأول وحتى راهنه..
ويمكن دون عناية في البحث أن نجد أن أهم خصيصة لهذا الفكر : سكونيته، التي تشكلت لأن هذا الفكر ظل خارج الشرط التاريخي له، هذا الشرط الذي نادى به المعتزلة لكن السياق التاريخي المتشكل للسلطة التي شكلها هذا الفكر استأصلت، تاريخية (الفكر) المقدس وثبتته ولا يبدو هذا التثبيت (التسكين) نتاج للسلطة ذاتها بقدر ما هو نتاج بنية هذا المقدس ذاته . فالمقدس أحد أهم خصائصة أنه عابر للزمن وغير خاضع له، وبالتالي فهو لا يستجيب لأي تحولات يفضي إليها هذا الزمن كمتحول مستقيم وممتد شاقولياً ومتواشج افقياً مع تاريخية الواقع ومتشابك معها. .
وأذا جاز لنا ان نقر توصيف السكونية لهذا (الفكر) المقدس الذي أنتج سلطته (وليس العكس) فإن هذه السكونية شكلت بنية صلبة لهذا الفكر غير قابلة لاعادة التشكيل وغير قابلة أيضاً للتطعيم بما هو خارجها، كما ان هذه البنية انتجت الإحالات (اليومية) لها فيما شكل إغلاقاً مكتملاً ومنجزاً لكل شؤون الحياة، وإذا كان الالتجاء الى المقدس لدى حراس هذه البنية (النص وتأويلاته واجتهاداته وما رافقها بدءا من المساجلات وانتهاءا بالاوراق الصفراء) هو نوع من تبرير الذات والدفاع عنها ودحض ما آلت اليها من ضحالة فهو كذلك نوع من النقد للواقع الماثل، هذا النقد الذي يقول أن الابتعاد عن المقدس هو الذي اوصلنا الى هذا، لأن "هناك " كل شيء له حل (وهناك تعود الى النص وأطرافه وهوامشه التي شكلت البنية الساكنة) إن هذا اللجوء الى المقدس كحصن أخير سيقود الى ماضوية كلية تعيد انتاج الاجوبة وتنهر الاسئلة الشكاكة غير المتيقنة لتحقيق نوع من التوازن اليقيني لحاضر يُرى بالعين المجردة مدى " تفاهته " والركون الى اجوبة معلبة صالحة ولايوجد زمن انتهاء لهذه الصلاحية لأن هذه الأجوبة خارج الزمن (كذلك زيّنا لكل أمة عملهم) وإذا كانت بعض المذاهب الفكرية السالفة قد أوجدت حلا معقولا في عصرها لهذا المقدس بالقول بتاريخيته (المعتزلة) فأن حركية مجمل الفكر الانساني والواقع الذي انتجه تقول أن هذا لم يعد كافياً إلا كصيغة اجرائية للتحليل وإذا شاء الفكر أن ينخرط في الارض عليه أن يبدأ يتفكيك هذا المقدس لا عبر نفيه ومحاربته بل باعادته الى أسه التاريخي وشرطه أيض.ا
إن الركون لهذا المقدس (كمكون يكاد يكون الوحيد لمجمل التراث الفكري للعرب) ما هو إلا بقاء مستديم لطغيان الماضي الساكن وسحبه وفق احداثيات ثابتة ايضا يتم تحريك النقاط باتجاه التمدد الزمني غير الثابت فما يفعله حتى ناقدو التراث هو هو ابدال رموز ونصوص ووقائع ماضوية برموز يقول بها غيرهم، إذ انهم في المنبت والمقايسة يعودان لنفس أس العلة لينهلوا منها. ...

إن الحاجة لتفكيك المقدس تعني اطلاق حدود الفضاء المقيد للسؤال الذي هو محرك الفكر والفلسفة والعلم أيضا، كما إن الخضوع لسلطة المقدس هي ما جعل هؤلاء (سدنة الخطاب السكوني) فاعلين في الحضور العقلي الكلي لمجتمعاتنا لأنهم يحيلون الى المقدس وهم ليسوا إلا وسيط لعبور المقدس من الماضي بعلبه(التاريخية) الى حاضر/هم، إن محاولة نقد المجتمعات السكونية وعقلها المشكل جمعيا عبر نقد الآليات الوسيطة لعبور هذا المقدس هي مضيعة للبحث الأصيل وإني أرى (كما كثيرين) أنه يجب الذهاب الى النبع الأساسي: المقدس.
لذا تجد ان سدنة المقدس يشهرونه سيفا لمواجهة اي تساؤل شكي يقترب من تخومه إذ أن الشك نقيض الإيمان والتسليم الذي هو احد البنى الأساسية للمقدس.
ومن الطبيعي أن يقاوم سدنة البنية السكونية لهذا المقدس أي قراءة تتجه بشكل واضح إلى هدم هذه البنية الصلبة الساكنة غير القابلة للمواءمة مع السياق الراهن ليس لتطور الفكر الإنساني بل للحياة بشكل أساسي.
و سيكون خيارهم الدفاعي الأساسي ليس تفكيك هذه التساؤلات ومحاورتها بل سيكون إشهار المقدس كسيف قاطع لكل ما يطرح خارجه فهو حجة خارجة عن إطار الجدل والنقاش فهي كعصا موسى تلتهم كل ما هو أمامها ليس بقدرتها (الفكرية) على المحاججة بل بصفتها المقدسة، وسيكون إثارة العقل الجمعي المتلقي دون مسائلة لهذا المقدس الوسيلة (الاجرائية) لمواجه هكذا طروحات وتسفيهها كي تكف عن الفعل في الواقع عبر تبنيها اجتماعياً سواء كان هذا التبني بصيغة فردية أو عبر بُنى تنظيمية لكنها في الحالتين ستحفر فعلياً في الواقع.
ويمكن ملاحظة أن الذين حاولوا تفكيك هذه البنية الساكنة وقد جاؤوا من داخلها كانت طروحاتهم تمضي نحو الجذرية والتماسك أكثر من اولئك الذين جاؤوا من سياق فكري إنساني / خارج هذه البنية ويمكن ملاحظة هذا في النتاج الفكري لـ عبدالله القصيمي الذي بدأ حياته الفكرية في "تمجيد " هذه البنية الساكنة الصلبة للمقدس مقارنة مع بنية ساكنة تأتي في السياق ذاته إلا انها غير صلبة وقابلة للتمدد وإعادة التشكل دون فقدان جوهرها الاساسي.
ويمكن القول أن "الوهابية " التي دافع عنها القصيمي في بداية مشواره الفكري هي تمثيل دقيق لهذه البنية الساكنة الصلبة غير القابلة لإعادة التشكيل والصياغة من داخلها وهي محددة وحادة وواضحة ومجردة لا تقبل الموائمة والملائمة لواقع تاريخي غير مجرد وهي الوحيدة (تقريباً) في العصر الحديث التي انتجت سلطة واقعية فاعلة في الواقع ليس عبر تشكلها سلطة بمعناها السياسي بل عبر تشكلها سلطة فاعلة داخل العقل الجمعي / الفردي وتشكل مرجعية ليست اجتماعية فحسب بل وفردية أيضاً، ومن الطبيعي أن تقاوم هذه السلطة أي محاولة لتفكيك هذا المقدس وإعادته لشرطه التاريخي لأن هذا يعني بكل بساطة نسف لهذه البنية . وعليه فإنها تستحث الممانعة في العقل الجمعي المتلقي لها، ولا نعني بتفكيك المقدس هنا معاداته أو نفيه من حيز الوجود بل اعادته الى حيزه الفردي الشخصي غير الجمعي أي تفكيك سلطته هذا الحيز من الاشتغال الفكري هو ما شكل مسيرة عبدالله القصيمي غير أنه عزل كأي كمحاولة " تاريخية " أخرى جرت في هذا السياق ويمكن القول أن أي محاولة فاعلة ستواجه نفس المصير !!! إلا انه لاخيار آخر غير: تفكيك المقدس.
[email protected]