قراءة تاريخية (1/2)
ما هي الآليات التي تميز مدخل المقدمة الموسوم((في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابها))، هذا بحساب أن القراءة هنا تتطلع نحو استجلاء ملامح التشكيلة الخطابية التي يشتغل فيها الخطاب التاريخي الخلدوني، من حيث الشكل الذي تتبدى فيه، وامكانية توافقها مع عنصر التطور الزماني وقدرتها على تكوين الصلة والعلاقة مع المجمل من الكلمات التي يكون لها القدرة على الافصاح والتعبير عن الفكرة التي تتم معالجتها. استنادا إلى وحدة العبارة التي تحيل إلى ذات الموضوع الواحد وطريقة تجسيد العبارات التاريخية ضمن لوحدة لخطابية، القادرة على استيعاب طبيعة التحولات المستمرة ضمن فضاء الوعي التاريخي. انطلاقا من التطلع نحو مراعاة الشكل والتسلسل والترابط مستوى الانسجام القائم بين المصطلحات والفرضيات التي يقوم عليها النص. هذا مع أهمية التنبه إلى أن الوصف الذي يحوزه النص لابد أن يعيش لحظات التبدل والتغير انطلاقا من الوعي بالمتغبرات التي تطرأ على المقاييس التي يتم بها استقاء المعلومات (1)، وطريقة الوقوف عليها. وإذا كانت الموجهات في لحظة زمنية تفرض بحضورها على النص من خلال الحضورية الفائقة لبعض العبارات التي تحاول تحديد المفاهيم والسعي إلى فرضها ضمن المنظومة المتداولة، فإن القيمة التعبيرية للأفكار تبقى شديدة التعالق بين الصورة الجديدة التي تتبدى عليه، وأصل الإشتقاق من المفهوم الأساسي الذي ارتكزت عليه. هذا بالإضافى إلى طبيعة الأشكال التي تتبدى عليها وحدة المضامين الفكرية تلك التي تكون بالعادة عرضة لتسرب الخيارات والميول والاتجاهات(2)، لا بحساب التشابه والثبات وفقط، بقدر ما يكون أهمية الاختلاف حاضرا فيها والذي يكون بمثابة الحافز والموجه نحو بقاء النص وقدرته على الاستمرار.
التاريخ بوصفه علما
يترصد موضوع التاريخ، الذي يعنونه إبن خلدون علما، فيما يؤكد عليه في المتن بوصفه فنا، في تكرار توكيدي((أن فن التاريخ فن عزيز المذهب)) ص 41. ولعل الوقوف على التباين اللفظي بين مفردتي العلم والفن، يفصح عن طبيعة الموجه القرائي، وحالة التمثل التي يبرزها الخطاب خلا لحظة المعنى المتداول لمفردتي العلم والفن، حتى أن العرب كانت تصف العلم الميكانيك بفن الحيل على سبيل المثال. وإبن خلدون في ترسيم موضوعه لا يتوان من توصيف موضوعه بــ العزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية،يوقفنا على أحوال الماضين الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسيرهم. فيما يتم تحديد الغاية، من خلال ما تفصح عنه الذات حول إتمام فائدة الاقتداء لمن يرومه((أي التاريخ)) في أحوال الدين والدنيا. وهكذا يتبدى محور الرغبة الذي يحدده مجال العلاقة القائمة بين الذات تلك التي تعبر عنها فائدة الاقتداء التي يشير إليها إبن خلدون، والموضوع الذي يتمثل بعلم أو فن التاريخ. ومن هذه العلاقة يمكن الوقوف على المدى الذي يبرز مجال حركة الخطاب، باعتبار الوقوف على مصدر وقصدية تلك الحركة. أو التمكن من تحديد مجال النفي والإثبات للموضوع. بل أن المهم في توزيع العلاقة القائمة هنا، إنما تنطوي على طبيعة العلاقة التي تترصدها الذات عبر الموضوع، ذلك الذي يمنحها الفاعلية وقوة الحضور والتأثير. فيما يحضر التوزيع لعناصر الموضوع والذي يقود إلى تشخيص معالم النفي أو الإثبات، أو تحديد مجال التحولات الإيجابية أم السلبية. وتبقى الذات بمثابة أداة التحريك للنموذج فيما يحوط الموضوع المزيد من الغموض باعتبار ارتباطه بالرغبة القصدية. حيث الملفوظ الذي يبقى مؤديا دور عملية الاتصال أو الانفصال وما يمكن أن يبرزه السرد من وضع سجالي في مجال توزيع العلاقات بين العناصر أو استبدالها ببعضها الآخر. ومن هذه الرغبة تتجلى معالم القصدية التي تحكم الأفعال الواعية التي تقوم عليها اتجاهات الموضوع والمتمثل بـ علم التاريخ.
الذات المؤرخة
يرصد محور الإبلاغ مجال العلاقة بين المرسل ((المؤرخ)) والمرسل إليه ((المؤرخين)) وليس عامة القراء، فمصدر الخطاب يتوجه بلغة تعليمية قوامها النصح والارشاد وامعان
مجال التفكر، وكأن منشيء الخطاب في حلقة درس يمليه على طلبة يسعون للتحقق من معنى التاريخ، بل أن طريقة التقديم تبدو وكأنها تسعى للإجابة على سؤال محدد. باعتبار البحث عن الباعث على الفعل والمستفيد منه، ومن هذا يصوغ الكاتب آليات خطابه عبر أكثر من محمول وصفة، فتارة تراه شيخا لحلقة الدرس، حين يمعن ياستخدام فعل الأمر ((إعلم، أنظر، فما ظنك، كما ذكرنا لك، ولنذكر هنا)) أو تتقمصه الذات الفاعلة المؤثرة في صلب الواقع، حين يذكر مباشرة((ولقد عذلت يوما بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه بتعلم الغناء وولوعه بالأوتار، وقلت له:ليس هذا من شأنك ولا يليق بمنصبك؛ فقال لي: أفلا ترى إلى إبراهيم بن المهدي كيف كان إمام هذه الصناعة ورئيس المغنين ي زمانه؟فقلت له: يا سبحان الله!وهلا تأسيت بأبيه أو بأخيه!أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم؟! فصم عن عذلي وأعرض. والله يهدي من يشاء. )) المقدمة ص 52، وابن خلدون هنا مؤدب للأمراء، يسدي نصائحه لهم قادر على ترسيم موجهات العلاقة بين حدي النهاية والبداية. وهو القادر على تأطير مجمل التحولات في النص السردي. أو أنه يظهر بلباس المؤرخ حيث الاستغراق في التفاصيل لمجل الأحداث التي يعالجها، حين يعمد إلى استخدام مفردات من نوع ((وقد نجد،// ومن الأخبار الواهية//،هذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة،// وأما غزوهم بلاد الشرق وأرض الترك،//ومن تأمل أخبارهم،// من الأخبار الواهية،//حسبما نذكرهم،//وقد كدنا أن نخرج، // الذي نحن شاهدوه،//وأنا ذاكر في كتابي هذا)) أو حين يعكف على تقديم صورة الواعظ ورجل الدين واللغوي، بحساب استخدام ((فلا تثقن بما بلقى إليك من ذلك،وتأمل الأخبار واعرضها على القونين الصحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه//، والله الهادي إلى الصواب//. نعوذ بالله من غلبة الرجال وسوء الحال//، لكني جادلت عنهم في الحياة الدنيا، وأرجو أن يجادلوا عني يوم القيامة//. )) وإبن خلدون هنا يؤرخ من موقع المؤرخ المسلم الذي يعيش مرحلته التاريخية، وطريقة الانشاء الخاصة بعصره والعلاقات السائدة فيه، ومن هنا فإن هذا التوجه إنما يعكس محاولة ربط الذات وجعلها كدافع للفعل والتأثير، باعتبار أن موضوع التاريخ هنا يقوم على غاية إبلاغية تستند على مدى الاكتناز بالقيم االتي يراد لها البقاء والاستمرار. وأبن خلدون هنا لا يتردد من توسيع الفضاء الدلالي، حين يجعل من المؤرخ مرتبطا بمحور الرغبة من أجل إنتاج اقناع المؤرخين والمتلقين والقراء، ومحاولة التأثير عيهم من خلال توسيع مجال القبول، وتوكيد مجال الفعل، هذا مع اdivide;مية التنبه هنا إلى أن ما يرومه المرسل لا ينطوي بداهة على الخير الكامل أو الشر الشر، حيث يبقى الاسثمار الدلالي في الفضاء السردي يقوم على مدركات الوعي بمدار السلبي والايجابي الذي يختزنه النص. وطبيعة الحراك والتحولات التي تشهدها العلاقات وامكانية الهجرة والتسرب للقيم بين هذا الموقع أو ذاك. وعلى هذا فإن التدقيق والتبصر في دور المرسل ((المؤرخ)) في النص يبقى بمثابة الوسيلة التي يتم من خلالها قياس درجة التحولات. كما تخيله جبران
رصد التحولات
أية تحولات يمكن ترصدها في هذا النص الخلدوني؟هل يكمن في فضل التاريخ؟ أم تحقيق مذاهبه؟أم عرض المغالط والأوهام؟أم ذكر أسبابها؟وهاهو المؤرخ يقوم بتفعيل المزيد من الموضوعات والأفكار، ويسعى نحو إحياء المتعارضات والمتقاطعات، وبل أنه لا يتردد من أداء العديد من الأدوار المختلفة والتي تحمل بين طياتها المصالح المختلفة والأدوار المتنوعة، ليجعل من النص بمثابة الحقل المفتوح على توسيع مجال الخيارات للأفكار من دون الوقوع في مجال التحديد، هذا على الرغم من حالة التوكيد التي القيمي التي يرسخها في نصه، والمتعلقة بالثابت الديني والأخلاقي.
ما هي نقاط الثبات والتحول التي يعمد إليها ابن خلدون نحو معالجتها، في نصه الذي يتصدر المقدمة. إنه يتوجه إلى توسيع مجال التمايز في الوظائف، ويجعل من عنصر الزمان فاعلا مع استحضار البعض من الأثر الفردي الذي يحدثه البعض من المؤرخين في النص التاريخي،فيما تكون القواعد المقترحة شديدة الانفتاح، من دون الانشغال بالرصف الزمني، إنه يعلي من شأن الموضوع وجعله أداة للمعالجة عبر التباين الذي يتيح مجال الاستثمار الأصيل المؤدي إلى النتائج المتوخاة. وهكذا يكون الموضوع الخلدوني عرضة للتنوع والاختيارات الواسعة غير الخاضعة للتوظيب والتقنين(3). فقواعد الاشتغال لديه إنما تقوم على الحضورية الصارمة للمفاهيم والصياغات المعبرة اللافظة للضمانات والاحترازات، أو الوقوع في متاهات التبصر والتوقع، التاريخ الخلدوني وعي يقوم على عمق التحليل وقوة الادراك والانفتاح المتطلع نحو ترصد التحولات. وهكذا تكون طريقته في ترصد أحد عشر خبرا تاريخيا.
الخبر الأول، والمتعلق بجيوش بني إسرائيل، المقدمة صص41-43. يكون التوقف المدقق فيه عند:
1.المبالغة في عدد الجيش
2.ضيق أرض الشام بمثل هذا العدد من الجيوش
3.التتبع التاريخي لتطور عدد الجيوش المعاصرة لهم.
4.التحقق من النسب والنسل والأجيال.
الخبر الثاني، يخص تبابعة ملوك اليمن وأخبار المؤرخين الضعيفة حولهم، المقدمة ص ص 43-45. حيث الإشارة إلى :
1. السقوط في الوهم والغلط، ووالت تبدو وكأنها أشبه بالقصص الموضوعة.
2. الوقوف عند مسألة مؤونة العسكر
3. البحث في التفاصيل الجغرافية والمكانية
4. التدقيق في مجال النفوذ السياسي الذي بلغته دولة التبابعة.
لا يتوقف ابن خلدون عند مجال النقد التاريخي للأخبار والروايات،بل أنه يسعى نحو ترصد ما يتناقله المفسرون لبعض آيات القرآن الكريم،حول خبر إرم ذات العماد، وطريقة المعالجة اللغوية والتي تقوم على إضافة الفصيلة على القبيلة، كقول العرب، قريش كنانة. وهكذا يتبدى ابن خلدون ناقدا اجتماعيا حين يتصدى لأخبار الرشيد، وناقدا ثقافيا لخبر المأمون، ونسابة حين يتعرض لموضوع خبر العبيدين والأدارسة. وقاريء نابه لتحولات اللغة وتطور الدلالة الاجتماعية والسياقية لها، عبر ترصده لوظيفة معلم الصبية تلك التي تم ربطها بوالد الحجاج بن يوسف.
توسيع مجال الرؤية
من أية رؤية ينطلق ابن خلدون حين يعمد إلى التصريح المباشر بما يحتاج إليه صاحب هذا الفن((التاريخ))، المصرح به هنا، يقوم على تحديد شديد الوضوح قوامه:
1. قواعد السياسة.
2. طبائع الموجودات.
3. إختلاف الأمم والبقاع والأعصار والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب والأحوال.
4. التعليل والتحليل.
5. البحث في الأصول.
6. التفحص في الأسباب والأخبار.
7. مقارنة المنقول بالأصول. (4)
وتلك تكاد تكون قواعد منهجية يضعها أمام المتلقي، الدارس والقاريء وعابر السبيل حتى، لكن ألا ينطوي هذا على إبراز مجال اصراع، حيث الدور الذي يحظى به المعيق((أوهام النقل)) والمساعد ((العرض على الأصول))، انطلاقا من البحث الذي يبرز الموضوع وطريقة ظهور العاملان الذي يقوم عليه محور الصراع، وإذا كانت الذات المرؤرخة لإبن خلدون تظهر في تمام تبصراتها المعرفية، فإن الأمر لا يخلو من بروز بعض التقاطعات، غلى الحد الذي يمكن الإشارة إلى امكانية وقوع ابن خلدون ذاته في البعض من تلك الأوهام أو ربما المجاملات، لا سيما وأن القراءة الممعنة والمدققة في سيرته الشخصية، كثيرا ما تشير غلى حزمة من التقاطعات بين المظهر والجوهر. أما مسألة العرض على الأصول فتبقة حبيسة ظرف الاشتغال، ولا تمثل مدارا قاطعا في مسألة تداول المعنى، بل أن المعيق ذاته والذي اختصه ابن خلدون بأكثر من إشارة، لا يخلو من آثار الذات المضادة، تلك التي تتبدى في ترصده لأخبار المؤرخ المسعودي، والذي يورده في نصه خمس مراة، يذكر في المراة الأربع المسعودي ضمن طائفة المؤرخين الواقعين في المغالط وزلة القدم، لكنه في الخامسة يعمد إلى الاستدراك، حين يصفه ((فصار إماما للمؤرخين يرجعون إليه، وأصلا يعولون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه. ))ص 63.
كيف يتبدى ابن خلدون في نصه، أهو المؤرخ الرسمي الذي يعمل ضمن الفضاء الرسمي الذي تمثله الدولة، أم أن الموجهات المعرفية هي الأشد حضورا. هذا إذا ما أخذنا بالإعتبار طبيعة السيرة الشخصية لإبن خلدون وتطلعاته وشغفه في تداولات السياسة ومغامراته التي لم تعرف الهدوء أو السكينة، لكن تحرير مقدمته كانت في الفترة التي حاول الجنوح فيها إلى العلم والتأليف،حيث تمكن من استرضاء الأمير أبو حمو في تلمسان حتى تمكن من التفرغ للتأليف في إحدى قصور بني عريف في قلعة بني سلامة من بلاد توجين، للفترة من 776 حتى 780 هجرية. و كأنها لحظة استراحة المحارب المتأمل والحكيم،الذي راح يوظف الوحدات الجزئية من التاريخ وصبها في الوحدة التاريخية الكبرى، والمتمثلة في فضل علم التاريخ. ولعل الشؤال الأهم هنا يندرج حول، توجهات ابن خلدون، هل كانت موجهة نحو فلسفة التاريخ؟ أم تاريخ التاريخ، أم منهجة التاريخ؟
(يتبع)
د.إسماعيل نوري الربيعي- قسم العلوم الاجتماعية- كلية الآداب- جامعة البحرين
التعليقات