آليت على نفسي، بعد لا جدوى الركوب في سيارات الأجرة، أن أركب الباص في ذهابي إلى مقر عملي، من خانيونس إلى غزة. فالوقت المصروف في كليهما واحد. وللباص ههنا مزايا، لا يوفرها لك ركوب السيارات. منها مثلاً، أنك تستمع في الباص، إلى نبض الحياة الشاب من حولك، بأكثر مما يتيحه لك الركوب في سيارة الأجرة الصفراء، ذات المقاعد السبعة، والركاب المتجهمين الصامتين غالباً. لذلك، أسافر منذ شهر، في هذه الوسيلة الشعبية. وأستمع إلى تعليقات طلبة الجامعات، وإن كنت لا أستمتع بما أسمعه في الأغلب الأعم. فكل ما أسمعه تقريباً، هو تنويعات وترجيعات على وتر واقعنا الصعب المدلهم الملامح.

قبل يومين، استمعت بانتباه، إلى سجال سياسي بين طالب جامعي من فتح، وآخر من الجهاد الإسلامي. الأول يؤيد عملية تل أبيب، لكنه يرى أن توقيتها خاطىء. فيما الثاني يؤيدها ويؤيد أمثالها في أي توقيت وكل توقيت. فهو يرى أن أبناء حركته - قالها بالحرف - غير سياسيين ولا تعنيهم حسابات السياسة. بل يعنيهم فقط الجهاد، ولا يفهمون غير الاستشهاد. سألت الطالب عن تخصصه الأكاديمي، فردّ: هندسة كمبيوتر. جيد.. لم أعقّب وآثرت السماع فقط. واصل الطالبان سجالهما، فيما راديو الباص، يبث، كعادة كل السائقين بغزة، إسلاماً عصابياً شاذاً، هو الإسلام الوهابي بطبعته السعودية المنقحة: أي طبعة بن لادن. ولا تستغربوا، فهذا يحدث عندنا في قطاع غزة منذ صعود حركة حماس في الانتفاضة الأولى. كنا آنذاك، نتصبّح بعبد الحميد كشك، من معظم راديوهات سيارات الأجرة، كأنه درس من باب الوجوب والضرورة. والآن جاء الدور على مشايخ الطرق الوهابية، وصولاً إلى الدَّعَويين البنلادنيين [ليمد الله في عمر سيدتنا فيروز وسقا الله أيامها الغابرة.. حين كانت الصباحات الفلسطينية لا تحلو ولا يكون لها من طعم إلا بصوتها السماوي الآخذ بتلابيبنا إلى عنان خضرة بلادنا وزرقة سمائها معاً، في مزيج من نشوة هو السحر الحلال بعينه. فقد صرنا الآن لا نسمع هذا الصوت، إلا لماماً، وعلى حين غفلة من رقيب. وأذكر في هذا السياق، قصة تكررت معي مرات لا مرة: يفتح السائق على فيروز، فيستشيط أحد الركاب الشباب غضباً، ويطلب النزول من السيارة احتجاجاً على صوتها العورة، أما غيره ممن هم أكبر سناً وأكثر حكمة فينزلون محتجين بصمت، لأن السائق لا يفتح على ترتيل القرآن، أو تأويله وفق المنحى الإخواني أو الوهابي. وما هو المنحى الوهابي؟ إنه الهذيان والتشنج ومعاداة الحياة والفطرة، والبهار دائماً حاضر: بكاء ممسرح انفعالي افتعالي، يقطع حنجرة الخطيب بين الفينة والفينة بدون حتى سبب موضوعي في غالب الأحيان. فهو يتكلم في موضوع لا يستدعي التباكي، فإذ به يتباكى، على نحو يلغي الهارموني من كل القصة!]

المهم، نزلت من الباص، وذهبت إلى مقر عملي، وقد هدّني الإحباط، من هذه quot;الثقافةquot; التي تحاصرنا آناء الليل وأطراف النهار. الإحباط الذي تحوّل بعد دقائق إلى تقلصات معهودة في القولون: تقلصات مزعجة بل مقرفة لا دواء ناجعاً لها، إلا أن تستبسل في ضبط أعصابك. وهذا بالطبع من رابع المستحيلات! طالب جامعي، على قدر وافر من الوسامة والبراءة، نسيت أن أقول لكم أنه في السنة الأخيرة من تخصصه العلمي المرموق، لا يؤمن ولا يرى غير ثقافة الاستشهاد التي هي عماد الجهاد وذروة سنامه، في مطالع الألف الثالثة التي تحوّلت عند هؤلاء إلى مادة نوستالجيا خالصة تتشبث باستيهام زمان الخلافة العتيق. ترى من أين استقى هذا الشاب مثل هذه الثقافة المعادية لأبسط معاني ومغازي الحياة؟ السؤال لا شك غبي، لكنني مع ذلك أسأله! فأنت، وهذا شأن بشري خالص، تعيد طرح السؤال حين تعجز عن توفير إجابة صحيحة له. من أين استقاها وأبوه وأمه، ومن قبلهما، جده وجدته، لم يعرفوها ولم يحلموا يوماً بأن تصيب أبناءهم وأحفادهم؟ وأية ثقافة هي هذه؟ وهل بمثلها يُصنعُ الانتصار أيما انتصار؟ يا الله أو يا للشيطان! نحن ساكني هذه البلاد الجميلة فاحشة الجمال الطبيعي، المُسماة فلسطين: بلاد التربة الحمراء مثل كبد الِّشنَّار وذات الخضرة بتدرجاتها السبعة وذات الزرقة لا أصفى ولا أغنى، وذات الثوب الفلاحي المطرّز بكل ألوان ربيعنا الفلسطيني، وذات وجوه وقوامات النساء والصبايا الفارهات الجمال ونادراته، كيف تسرّب لنا هذا الفكر المختل عقلياً، هذا الفكر الصحراوي النفطي الفاشي الذي يفضّل الموت على الحياة أي موت وكل موت على الحياة كل حياة وأي حياة؟ ومتى حدث هذا وكيف لم ينتبه مثقفونا وفاعلونا الاجتماعيون؟ أهي الصحراء تغزو مدن الشام المنفتحة تاريخياً، المتنوعة الخصبة تاريخياً أيضاً.. والمتصحرة والمقتولة الآن أيضاً وأيضاً وأيضاً. المقتولة بهذا النمط من اللا فكر الظلامي، الذي غزاها كما الأوبئة في العصور القديمة، فلم يفلت من تأثيره إلا من عصمته ثقافتهُ الإنسانية، ثقافته التي لا تصحّ ولا تستقيم إلا إذا اعتبرت مثقفي الغرب والشرق، الجنوب والشمال، جزءاً عضوياً من إرثه وتراثه الشخصيين. بلى إنها الصحراء وثقافة الصحراء. لكنّ هذا الاستنباط الساذج لا يحلّ المشكلة ولا يروي الغليل. والمشكلة في المشكلة، أن الأمر ليس مقصوراً فقط على غزة، بل هو سمة عامة لظاهرة عامة طالت جميع بلداننا العربية على ما نقرأ. ومع هذا، تقصُر أدوات تحليلي ويندلع ألمي. فنحن أولى العرب والناس، بحكم خصوصيتنا، بألا ننحاز إلى هذا الفكر الإقصائي الضِحَائي. ذلك أننا أولاهُم بحب الحياة وامتداح الحياة، مهما شحّ موردُها، مقابل كل هذا الموت اليومي الذي نعيش ونتنفّس. فمن أين جاءتنا هذه المصيبة وكيف توطّنت في نفوس شبابنا ذي النضارة والوسامة؟ الجهاد والاستشهاد ومن بعد الحور العين؟ وماذا عن حور عين خانيونس وغزة ونابلس ورام الله؟ ماذا عن حور عين الأرض والواقع والمتاح والمرئي والمحسوس والمشموم؟ أليست هاته هنّ حور عين أيضاً، وحور عين مبذولات لحواسنا الخمس ومعرفة حواسنا الخمس يا رجال المستقبل؟ إنكم ضحايا بامتياز! ضحايا لفكرة غامضة، غير مضمونة، مثل معظم الأفكار المماثلة في التاريخ.

وصلت إلى مكتبي، وقد بدأت فعلاً أحسّ باربداد المزاج، وبضرورة النزول لصيدلية قريبة، قبل تفاقم الحالة. كلا الألم الفيزيائي لن يزول بمحاولة نسيان الموضوع! عليّ أن أحترم ألم الجسد، وأحاول مداواته، بشيء مادي. إذ كنت أريد أن أتأمل بروية ما حدث، علّي أخرج برأي معقول في هذه الظاهرة: ظاهرة الانتحاريين الشباب، والكارثة أنهم شباب، لا شيوخ. أي أنهم لم يعيشوا بعد، ولم يذوقوا طعم الدنيا بعد: لم يدخلوا دنيا بتعبير إخوتنا المصاروة. فكيف أمكن لهم أن يصلوا إلى أقصى درجات العدم وهم الحياةُ في أوج تفتحها والمستقبلُ في أزهى نداءاته؟ لو كانوا مرضى نفسانيين، لما كانت مشكلة. لكنهم أصحاء عقلياً ونفسياً وجسدياً - على الأقل هكذا يبدون لي أو يبدو بعضهم. بل إنهم طيبون ويبتسمون ويحبون الحياة، ومتفوقون في جامعاتهم، مثل أضرابهم في كل مكان من هذا العالم الواسع. فقط وقعوا تحت تأثير ضغوطات معيشية هائلة، وانسداد أفق حلّ سياسي، فلجأووا إلى الدين، فأخذهم نوعٌ منه، هو الإسلام الجهادي، إلى عماء التطرف، مستغلاً أوضاعهم المريعة، وواعداً إياهم بالبديل السماوي، الذي لا يشكو من نقص في وعوده التعويضية الفاتنة. هذه هي كل القصة نظرياً، أو هذا هو أساسها الثقافي. ولكن هل يكفي هذا التحليل أو التأويل، ليمنع الألم بنوعيه الشخصي والعامّ، من أن يغزو جسدك ووعيك، وأنت في الأول والأخير، واحد منهم، تعيش بينهم، ويهمّك أن تراهم أفضل حالاً، بما لا يخطر على بالهم هم؟ إنك تعرف وإنهم لا يعرفون! ولطالما كنت تأمل لهم بأن يكون جيلهم أوفر حظاً من جيلك. فالحياة تتقدم، والدنيا تنفتح. وما كان في غير المتاح لجيلك من علم وأدب وسفر، متاح أو سيتاح اليوم أو غداً لهم. لكن الحاصل هو العكس، فحتى جيلك، جيل ما بعد عام النكسة، وجيل الفقر والألم والعصامية، لم تخلُ حياته من بهجات ومسرات صغيرة حميمة. أما هؤلاء، فإنه لأمر مرعب مجرد التفكير في أنهم لا يفكرون فقط إلا في الاستشهاد والجهاد.. فيا للهول حقاً. كيف وصلنا وأوصلناهم نحن الكبار إلى هاوية الموت هكذا! على جهة ما أن تحاكم كل الواقفين وراءهم من قادة ودعويين وأئمة إسلام سياسي. فكل هؤلاء، لم يرسل أحدٌ منهم ولده إلى مآل كهذا. وإن حدث، فعلى الأغلب من وراء ظهورهم، ودون علمهم الشخصي. بل إنهم يوفرون لأولادهم أفضل فرص التعليم، في الداخل والخارج. فكيف يستقيم هذا التناقض الجوهري، ما بين دعاواهم وسلوكهم؟ وكيف لنا أن نحترمهم وهم كذابون منفصمو الشخصية؟ بل حتى لو وجدنا أفراداً منهم مستعدين لإرسال أولادهم، فإن هذا لا يغيّر من فظاعة الموضوع في شيء، وإنما يزيده فظاعة ولا إنسانية. ذلك أنه ليس من حقهم مطلقاً أن يقتلوا أبناء الناس بهذه الطريقة الأشد وحشية، والتي لا يعرفها أحدٌ غيرنا، في كل التاريخ النضالي الحديث.
نعرف أن إسرائيل هي المجرم الأول. وهي صاحبة الفعل، بينما هم أصحاب ردّه فقط. ولدينا في هذه النقطة، الكثير من القول والتحليل والتأويل. لكن إسرائيل، لم تكن يوماً معنية سوى بتدميرنا الموضوعي، ومحاولة إلغائنا وإخراجنا من فضائيْ الجغرافيا والزمن التاريخي. نعرف ذلك، فماذا عمّن يريدون تدميرنا ذاتياً، بهدر هذه الطاقات الشابة المعطاءة، وإفراغ المجتمع من خميرته وذخيرته وقواه الخلاقة.. أليس هذا هو نوع من [إعدام المستقبل] لهذه الأرض ولبشر هذه الأرض المعذبة التي طال عذابها حتى بات نوعاً من همهمات الصمت والأسى الأخرس؟
لقد قيل في أدبيات جميع ثورات التحرر الوطني في العالم، إنه من المهم والضروري الحفاظ على حياة المناضل، وصيانتها وعدم هدرها مجاناً أو بثمن رخيص. فكيف تغيب هذه البداهة عن عقول وقلوب القادة الفلسطينيين الثوريين منهم والمجاهدين؟
ثمة قواعد يجب احترامها في كل نضال. ثمة بديهيات. ثمة عذابات يُحذرُ التسبب بها. لكن قادتنا، بما هم ناقصو ثقافة بالأساس، لا يعنيهم غير الاستعراض وتوكيد نرجسيتهم المقاوِمة. أما الشباب الضحايا، فهم ملح الأرض وخشب المحرقة. وكم يأخذني الأسى ورعشةُ البكاء، لأنني أعرف جيداً، ماذا يحلّ بهم وبأهليهم، هم الغلابا المعدمون، حين تبرد الزّفة، وحين تخفّ أرجل المعزّين، ويُخيّم صمت ثقيل على أركان البيت، فلا يتبقى للأب والأم والأخوات، سوى غَصَص التذكّر، وسوى صورة الغائب الغالي المعلقة، باردةً موحشةً، على جدار مُبقّعٍ في غرفة نوم متواضعة أو صالون فقير.

يا إله السماوات، البعيد الأبعد، لتنظُر، من أعاليك، إن كنت موجوداً، على فقراء شعبي، ولتقيهم من حنظل هذه الكأس....