الرأی الفقهي بشأن شرعنة العمليات الانتحارية المثيرة للاشمئزاز والتي غالبا ما تحصد مدنيين من قتلى وجرحى، ليس سوى انعكاس للتناقض الذي يعبر عنه الفكر الديني أزاء علاقته بقضية احترام حقوق الانسان.
في المقابل فان عدم قيام بعض الأطراف الدينية بإدانة الاعتداءات الارهابية يعتبر بمثابة عود الكبريت الذي يشعل فتيل هذا التناقض.
ففي الوقت الذي تؤيد فيه بعض الفتاوى الدينية ورؤى سياسية مؤدلجة العمليات المسماة "بالاستشهادية"، فاننا في الوقت نفسه نرى تلك الفتاوى والرؤى تندد بعمليات شبيهة لتلك "الاستشهادية" وتصفها بالارهابية لا لشيء إلا لانها استهدفت مصالح اخرى. وهو باعتقادي أمر من شأنه ان يخلق تناقضا في موضوع سلامة وصحة الفتاوى والرؤى ينطلق من قاعدة فكرية بنيت عليها عملية اطلاق هذه الفتاوى والرؤى.
وتمثل العمليات الارهابية ضد الاهداف المدنية العراقية دليلا قاطعا على ان التناقض تجاهها ـ وخاصة في الفتاوى ـ بلغ حدا كبيرا. فهناك من الفتاوى ما تجيز هذه العمليات وتعتبرها من اعمال المقاومة المشروعة للدفاع عن النفس والارض والعقيدة، فيما فتاوى اخرى لا تجيزها بتاتا وتعتبرها من الاعمال المحرمة باعتبار انها قائمة على قتل النفس واهدار دماء المدنيين والابرياء.
لكن المشكلة تكمن في فئة من يجيز مثل هذه العمليات، اذ انها تجيزها في مكان وتحرمها في مكان آخر، مع ان العمليات تهدف الى تحقيق شيء واحد وهو محاربة ما یسمى "بالاحتلال".
وفي ضوء هذا الاختلاف فانه يمكننا ان نطرح بعض التساؤلات: اذا كانت هذه الفئة ـ التي تعتبر العمليات الانتحارية من اعمال المقاومة ـ تعتقد بان تفجير انتحاري لنفسه في شارع مكتظ بالعراقيين من رجال ونساء واطفال وشيوخ ومدنيين وغیر مدنیین هو عمل "استشهادي"، فلماذا لا تكون هذه النوعية من الاعمال "استشهادية" اذا ما تم تنفيذها في الولايات المتحدة أو ضد المواطن أو الجندي الأميركي خاصة في ظل التفسير القائل بان الاميركان حكومة وشعبا هم من يغذون الارهاب الدولي وبالذات الاسرائيلي.
أما اذا كانت العمليات الانتحارية في الولايات المتحدة ارهابية لأنها تستهدف المدنيين، في حين ان الحكومة الامیركية هي التي تغذي الارهاب الاسرائيلي وليس مواطنيها، فانه في المقابل هل يمكن وصف العمليات الانتحارية الفلسطينية ضد المدنيين الاسرائيليين بانها ارهابية؟.
في ظل هذه التناقضات الوصفية والتفسيرية، اي بين عمليات "استشهادية" ومقاومة مشروعة ثم في ظروف مغايرة ينقلب الامر الى تنديد بعمليات لا تختلف بطبيعتها عنها في شيء حيث توصف بانها من اشرس العمليات ضد الانسانية وأنها إرهاب جبان، فإننا بحاجة الى وضع الاصبع على مكمن الخلل المؤدي بنا الى مثل هذه التناقضات.
وفي اعتقادي فان الخلل يتمثل في تفسير مفهوم "الاستشهاد" والذي على اساسه تم وصف عمليات انتحارية بانها ارهابية واخرى شبيهة بها بأنها "استشهادية". فنحن بحاجة ماسة وفورية لاعادة تفسير هذا المفهوم التاريخي والخطير.
فرغم انه مفهوم قديم قدم تاريخ ظهور الاديان وبالذات الاسلامي، الا ان تفسيره لم يرتبط بتطور التاريخ وتغير الحياة البشرية، وبالتالي لم يتغير فهمه عما كان عليه وعما ارتبط به من أحداث تاريخية وحياة بشرية خاصة. فالمفهوم ايا كان لا يمكن ان يبقى أسير الظروف الاجتماعية القديمة، ولا يصح ان يظل في اطار التفسير المرتبط بالحياة البشرية الغابرة، ولا فائدة منه اذا لم يستطع الفكاك من التاريخ، بل لا بد ان يطاله التفسير الجديد المواكب لتغير الحياة البشرية لكي يستطيع الخروج من حالة التناقض التي وقع فيها نتيجة ارتطامه بموج البحر القديم ثم الرسو بسفينته في ساحل الحياة الراهنة. فإذا ما كان التفسير قديما فلا يمكن للمفهوم ان يعيش في الواقع الجديد، اذ لا بد ان يتجدد حتى يستطيع مواكبة هذا الواقع والسير فيه بشكل طبيعي.
ان وجود التناقض في شرح مفهوم "الاستشهاد" يرتبط بالتفسير الديني، ونقصد بذلك التفسير المرتبط بالمدرسة الفقهية التاريخية، المهيمنة والمستحوذة على عملية التفسير بطريقة وصائية لا يمكن هضمها ولا تقبلها، والمتعلقة بأسس ايديولوجية غير قابلة للنقد والتغيير الا في اطار الفقه نفسه، الامر الذي جعل المفهوم يعيش حالة من عدم القدرة على الانفكاك من التاريخ، وعلى احتكار التفسير في خانة الفقه والفقهاء.
فمما هو متعارف عليه لدي المدرسة الفقهية ان الشرح الفقهي يعتمد على النص التاريخي وعلى الاجتهاد. ومن ثم فان النص قد يدلل على أحداث تاريخية لا نعيش ظروفها في الوقت الحاضر، وبالتالي لا يمكن التعويل على النص للوصول الى تفسير للمفاهيم القديمة كمفهوم "الاستشهاد" أو للمفاهيم الحديثة يناسب حياتنا الراهنة.
اما الاجتهاد فلأنه يعتمد في شرحه على علوم قديمة كعلم الاصول وعلم التاريخ والفلسفة ما قبل عصر التطور والحداثة، فانه لا يستطيع ايضا ان يصل الى تفسير عصري للمفهوم يستطيع من خلاله درء التناقضات المحيطة به.
لذلك فإن فما نراه من تفسيرات فقهية متناقضة ازاء المفهوم بين فقهاء السنة والشيعة تجاه وصف عمليات انتحارية بانها "استشهادية" عن تلك التي تقع في دول ـ حسب وجهة نظرهم ـ مغذية للارهاب الاسرائيلي كالولايات المتحدة بانها ارهابية، يتبين بوضوح ان الشرح الفقهي "للاستشهاد" غير قادر على تحديد معنى للمفهوم وفق ما يريده العصر منه.
كما تدلل التفسيرات بان المفهوم يعيش في غابة من المزاجيات الفقهية القائمة في تفسيرها على عاطفة مرتبطة فقط بالقضية الفلسطينية وبالذات بالقدس وبالمسجد الاقصى. في حين انه يحتاج الى نظرة علمية عصرية مجردة من أية عواطف، نظرة مرتبطة بالمعرفة العلمية وغير مرتبطة بالادلجة النافية لفرص نقد تفسير المفهوم وتغييره. فالعمليات الانتحارية ترتبط في بعض الاحيان "بالاستشهاد" وفي احيان اخرى ترتبط بالارهاب وبالعمل المنافي للانسانية، مع ان الفعل هو واحد في الاثنين: اي قتل الابرياء.
لذلك لا يمكن التعويل على اي تغيير في شرح وتفسير المفهوم في اطار جديد الا من خلال انتقال التفسير الى الوجهة المعرفية العلمية بدلا من بقائه في المدرسة الفقهية المؤدلجة للمفهوم. وبالتالي من شأن الشرح المعرفي أن يقوم على نظرة واقعية عصرية بسبب ارتباط العصر بالمعرفة وهي نظرة لا يمكن فكاك حقوق الانسان منها.. حقوق الانسان الجديد وليس القديم.

[email protected]