ليس العنف صانع التاريخ فحسب بل هو التاريخ نفسه! وكأن التاريخ يستجيب لصوت العنف، بإعتباره الصوت الأقوي والأكثر تأثيرا ودفعا لحركته. هذه الخلاصة التي تفيد بها كتب التاريخ والفلسفة معا لاتزال مطروحة بقوة، بل هي تترسخ أكثر فاكثر كلما ازداد العنف استشراء يوما بعد يوم.
لقد أصبح العنف في مطلع الألفية الثالثة جزءا منا وبعدا من أبعادنا، كما ان تذوق العنف جماليا لم يعد بالأمر الشاذ، ناهيك عن ان الإبداع الفني وجد في العنف ضالته، ومجالا من أخصب المجالات والموضوعات ربحية. ولأن العنف أداتي.. فإن كل تقدم علمي وتكنولوجي يبدو وكأنه ألتحم بمسيرة العنف.
والعنف في العالم المعاصر لم يعد دليلا علي همجية السلوك الانساني أو تخلف المعرفة الانسانية، بل أصبح إبداعيا، يتطلب درجة عالية من الإبتكار المدمر، كما يستلزم درجة متقدمة من التفكير العقلاني.
ويبدو ان خصوصية عصرنا هي التي أبرزت هذا الكم الرهيب من العنف الكوني : العنف الذي ينتقل من الحقيقة الي المجاز، من الواقع الي الصورة. وكما لاحظ عالم الاجتماع الفرنسي quot; بيير بورديو quot; في كتابه : quot; التليفزيون والتلاعب بالعقول quot; فان القوى المهيمنة بوسائلها المعلنة أو الخفية quot; الميديا quot; تمارس الزيف وكافة أشكال العنف الرمزي عن طريق ثقافة الصورة ، وهي الأخطر في عصرنا. ان ثقافة الصورة تتلاعب بالعقول، وتشكل الوعي المسطح، وتحول المجتمعات والبشر إلى مجرد دمى في يد القوى الخفية والآلهة الجدد للاعلام.
وعبارة quot;إن كان يدمي، فسيقودنا الي مكانهquot;. هي وصف مختزل لميل وسائل الاعلام الي تقديم العنف بطريقة تثير المشاعر، سواء كانت تلك القصص تستحق ان تكون أخبارا أو حتي تتميز باتجاهات دالة أم لا.
فقد تضافر كل من quot;العنف الترفيهيquot; وquot;العنف الإخباريquot; علي إغراقنا في دوامة العنف. والمقصود بالعنف الترفيهي هو ذلك الذي يظهر في البرامج الترفيهية كالمسلسلات والأفلام وتستخدمه شركات الانتاج بهدف جذب المشاهد من خلال الإثارة ودغدغة الأحاسيس السطحية كما يصفها البعض.
وكم كان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه مصيبا حين قال : انه لأمر مرعب حقا ان ينتقم المرء بنفسه لمبدأه الخاص. فما يحصل الآن من أعمال عنف ليس إلا أنتقاما، في كل ما يضمر الانتقام من معان: فرد ينتقم من الجماعة، جماعة تنتقم من السلطة، سلطة تنتقم من الأعداء ( المعارضين ) ولم يعد الألتجاء الي العنف قادرا علي انهاء العنف نفسه.
صحيح ان الأفكار الكبيرة التي رسمت اطارا فلسفيا للعنف أنتهت مثلما أنتهي جزء من التاريخ، القديم والحديث، لكن انتهاءها لم يعن أبدا أنتهاء العنف في صورته اليومية أو الملموسة والمفترضة: العنف الذي تحتكره السلطة، العنف الذي يحرق الايدي التي تمارس العنف بدورها. العنف الحقيقي الذي يحرر، العنف المزيف الذي يلغي صورة الآخر.
غيران الطابع الاشكالي والنقدي للفلسفة يحتمان إعادة النظر كل شئ، وفي كل قضايا الحياة، وبالتالي اخضاعها للمساءلة. والفلسفة، كذلك إلتزام لانها اندماج وانصهار في كل ما من شأنه ان يساهم في صيرورة الحياة، من أجل الانطلاق بها الي فضاء أرحب وأوسع.
من هذا المنطلق، لاتزال الفلسفة تقف ضد جميع ضروب quot;العنفquot; ndash; violence ومختلف أشكاله وصوره، لان العنف يجهض حركية الحياة ويقضي علي طموح الانسان في بلوغ الغايات النبيلة. والفلسفة تحارب العنف ليس لأنه مجرد سلوك فردي ينحصر في أخذ ثأر أو انزال عقوبة أو قصاص، ولكنها تحاربه لان العنف - كما يقول ( ايف ميشو ndash; Michaud ) ndash; يوجد quot;عندما يحطم واحد أو عدد من الفاعلين شخصا آخر، مباشرة أو بصفة غير مباشرة، دفعة واحدة أو بالتدريج، أو يمسهم في كيانهم الجسمي أو النفسي، أو في ممتلكاتهم، أو في انتماءاتهم الثقافية أو الرمزية المختلفةquot;.
والفيلسوف ضد العنف لانه، كما يقول (إريك فايل) quot;سلوك لا عقلي يهدف الي النيل من كرامة الانسان ومن انسانيته. ان الفلسفة ضد العنف لانه يقوم علي كل الأفكار السلبية التي تحاربها كالتسلط والظلم والبؤس والشقاء والحرمان.... الخ.
ولان العنف ، اليوم، أصبح سلوكا ممنهجا يهدف الي إخفاء أبعاده وخلفياته وبالتالي اخفاء أساليبه وآلياته، أو كما يقول quot;ميشوquot;: quot;ان مايميز العنف المعاصر عن أشكال العنف التي عرفها التاريخ، هو التدخل المزدوج للتكنولوجيا والعقلنة في أنتاجهquot;..... فان ذلك ما يجعل العنف سلوكا لا عقلانيا أنتجه العقل.
ان خطر العنف، في ان الوسيلة تغلب الغاية.فضلا عن ان الغاية لم تعد تتناسب مع الوسائل المستخدمة، ونجاح العنف معناه إدخال ممارسة العنف في صلب الجسم الاجتماعي والسياسي ككل، مما يعني عدم العودة للوضعية السابقة. ان ممارسة العنف، مثل كل فعل آخر، من شأنها ان تغير العالم، لكن التبدل الاكثر رجحانا سيكون تبدلا في اتجاه عالم أكثر عنفا ودموية.