المجتمعات المتخلفة هي المجتمعات التي تتوهم أنها خير خلق الله قاطبة، وما عداها دونها، سخرهم الله لخدمتها. وأنه سبحانه وتعالى، تقديرا ومحبة لها، سيكافئها، ويرفع عنها يوم القيامة ذنوبها ويضعها على غيرها. وهي أيضا المجتمعات التواكلية التي تؤمن أن كل ما يصيبها خيرا كان أو شرا، قد كتب عليها، ولا يد أو ذنب لها فيه، ولا قدرة لها في تغييره أو تبديله أو اتقائه. فيقعد أبنائها كسالى مخدرين نادبين مولولين، راجين منتظرين. وهي المجتمعات التي استحل أبناءها الكذب وامداهنة، والتملق والخداع لتحقيق مآربهم، والوصول إلى أغراضهم. وهي أيضا المجتمعات التي تنتظر بطلا، أو معجزة من السماء، تنقذها، وتحسن وضعها، وتحل مشاكلها، وتزيل عنها همومها، وتنتشلها من واقعها المأساوي الآسن الذي تتخبط فيه. وهي فوق هذا وذاك تعتقد اعتقادا راسخا أن ابن الشيخ شيخا، منذ نعومة أظفاره، ومهما افتقد من العلم والخبرة والمعرفة، ورغم علامات الغباء. لا بل تظن أن غباءه من دلالات البركة.
المجتمعات المتخلفة هي المجتمعات التي اكتفت بعلومها الدينية، معتبرة أن الحقيقة المطلقة تكمن فيها، واستهترت أو همّشت أو رفضت علومها الدنيوية بحجة أن الله يحاسبها على علوم دينها، ولا يحاسبها على علوم دنياها، ومتبعة قاعدة تقول: إن كانت هذه العلوم تخالف الكتب المقدسة التي تحوي الحقيقة المطلقة، فلا حاجة لنا بها، لأنها كفر وزندقة. وإن كانت توافق كتبنا المقدسة، فلا حاجة لنا بها أيضا، لأن كتبنا تغنينا عنها. أي أنها لم تكتفِ بالنظر إلى الكتب المقدسة على أنها كتب روحية وأخلاقية تنظم العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان. بل نظرت إليها على أنها كتب علمية، حقائقها مطلقة ثابتة، غير قابلة للبحث والنقاش والاختبار، كي لا تدخل في زمرة العلوم الدنيوية التي تموت فيها النظريات القديمة لتحل محلها نظريات أخرى جديدة أكثر شمولية ودقة وقدرة على التفسير.
لقد رزحت هذه المفاهيم على صدر وعقل العالم القديم لمدة طويلة، فأرخى الجهل والتخلف بظلاله على البشر لقرون عديدة، عميت فيها عيونهم، وأُغلقت عقولهم، ففقدوا نعمة العقل والبصيرة، والقدرة على التحليل والتركيب، والفهم والتفسير، وصاروا كالقطيع يموؤن بكلمة من سيدهم، ويصمتون بهمسة من شيخهم. ولهذا لم تبدأ حركة العلوم في الغرب إلا بعد فصل (العلوم) الدينية، عن العلوم الدنيوية، وتحديد هدف كل منهما ومجال عمله. ولم تبدأ حركة ترجمة العلوم والفلسفة في الشرق على يد المترجمين السريان إلا حين ساد الفكر العقلاني في عهد المعتزلة.
تتركز أغلب أسباب التخلف في الكيفية التي يتعاطى بها الناس مع الموروث الثقافي، والمفاهيم الاجتماعية، والأدبيات الدينية. وفي العادات والتقاليد التي أكسبها الناس صفة القوانين الموجبة. كما تتمثل أيضا في النظرة الدونية للمرأة واضطهادها، وحجب عقلها وحضورها، ورفض مشاركتها. وفي مناهج التربية والتعليم الأحادية النظرة، التي تعتمد على الترهيب والتخويف والعقاب، لا على الفهم والإقناع والاقتناع، والرحمة والمحبة، خاصة فيما يتصل بعلاقة الإنسان مع الخالق. كما تتمثل في رفض التنوع والتعدد، واعتماد اللون الواحد، والتماثل والتطابق. وفي النظرة الثابتة الجامدة إلى المجتمع والكون، التي لا تتغير ولا تتبدل، وفي تقديس المفاهيم القديمة، وتدنيس المفاهيم الحديثة التي أفرزتها حركة الحياة والناس. كما تتمثل في محاربة الجمال والموسيقى والفنون والإبداع، ف(كل بدعة في النار).
وتتمثل أيضا في الإكراه على القبول والاعتقاد، وقمع الحريات الشخصية، ورفض حق الاختيار. والتكفير، ومنع التفكير والتعبير عن الآراء، وعدم الاعتراف بحقوق الإنسان بحجة أن الحقوق كلها لله، وتحريم الخروج عن القطيع، خشية أن ينفرط عقد السبحة، ومعاقبة المخالفين بالموت.
وأخيرا وليس آخرا، في عدم الثقة بالنفس، التي تتمثل في التهرب من المسؤولية، والخوف من تحملها، وإخلاء الذمة منها، ورميها على عاتق الآخرين، خشية المحاسبة.
تقاس عظمة الحضارة بمدى قدرتها على تطوير الحياة البشرية، وبما تقدمه من خدمة ومنفعة لحياة الإنسان، ومن تحسين لظروف حياته وعيشه.
والثقافة أو التعاليم التي تدعو إلى نبذ الحياة وكرهها لأنها حياة فانية تافهة، وتحض على عشق الموت وطلبه، هي ثقافة وتعاليم مظلمة قاتلة ظالمة، لا يمكن لها أن تضيف لبنة واحدة إلى صرح الحضارة الإنسانية، إن لم نقل أنها عدوّة لها. وأقل ما يقال فيها أنها ثقافة وتعاليم غير جديرة بالحياة، ولا تستحقها.
[email protected]