استغل مهابة المناسبة، وصمت المعزين. وأطلق العنان لعقيرته في الوعظ قائلاً: هل تعرفون سبب ضعفنا وانكسارنا؟ هل تعلمون سبب نكبتنا وانهزامنا؟ سأروي لكم حدثا من التاريخ علكم تفهمون وتتعظون وتستلهمون منه العبر: عندما اجتاحت جيوش الصليبيين أرض العرب وهزمت جيوشهم، جمع الناصر صلاح الدين شيوخ المسلمين، نعم شيوخ المسلمين، لا قادة الجند وأمراءهم، وطلب منهم بعد أن أمهلهم ثلاثة أيام للتشاور فيما بينهم، أن يتدارسوا أمر الهزيمة ويكتشفوا أسبابها، ويفكروا بحلول لها.
وعندما عاد بعد انقضاء المهلة، سألهم إن توصلوا إلى شيء؟ أجابوا بلى يا مولاي. سبب هزيمتنا أن جيوشنا تركت سنة (المسواك). ولو عدنا إليها لانتصرنا، وهزمنا أعداءنا.
أمر الناصر صلاح الدين بشراء أطنان من السواك، وتوزيعها على الجند بالعجل. فكان ما أمر.
وفي اليوم التالي، عندما لاحت تباشير الصباح، واستيقظ جند الصليبيين من نومهم، ونظروا نحو جيش المسلمين أصيبوا بما يشبه الذهول أو العجب. فقد رأوا جنود المسلمين منهمكين بحف أسنانهم بهمة وسرعة ونشاط، وحار العدو في تفسير ما رأى، وتاهت العقول والنظرات، وكثرت التساؤلات، لكن ظنونهم أجمعت أن المسلمين يسنون أسنانهم تمهيدا لأكلهم. فدب الذعر في قلوبهم، وخارت قواهم. فأدبروا، وأطلقوا للريح لسيقانهم، لا يلوون على شيء. وولوا من ساحة العراك هاربين مذعورين.
أراد صاحبي التعليق، لكنه بلمسة ذات دلالة سكت.
لقد سمح هذا الدعي لنفسه أن يستغبي الناس، ويلفق الأحداث، ويزيف التاريخ، وظن أنه يخدم دعوته الدينية، ويقدم خدمة جليلة لله والإسلام ، ولم يدرك عقلُه الصغير أنه بكذبه ذاك إنما يسيء إساءة كبرى، لأن الأهداف مهما كانت نبيلة، والقيم مهما كانت عظيمة، فإنها لا تبرر استعمال الوسائل الدنيئة، ولا يحق لها أن تبيحها أو تستخدمها، ناهيك أنها استغباء لعقول الناس، واستغلال لمشاعر المحبين، وتلاعب بعواطفهم، وإفك وغش وتضليل، وخداع وتزييف وتزوير.
ليست الأمية هي الداء الأهم، أو الداء المستعصي الذي تعاني منه الشعوب العربية، فالأمية يمكن معالجتها، والقضاء عليها. وكم من رجل أو امرأة لا يجيدان القراءة والكتابة، لكنهما اكتسبا من مدرسة الحياة خبرة ومعرفة وقدرة على التفكير السليم، والرؤية السليمة، والاستنباط السليم، رفضا الغيبية والشعوذة والخرافات، والثلاث ورقات، فكانا إنسانين مدركين واعيين ناجحين، أحسنا تربية وتعليم أبنائهم وبناتهم، ففخروا بهم. وفي المقابل كم من المتعلمين الذين يحملون شهادات عليا، يفتقدون إلى القدرة على التفكير السليم، والاستنتاج السليم، والرؤية السليمة، لأنهم ما زالوا يعيشون في الماضي، يحملون عقليته، ويجترون مفاهيمه، ويقتدون بموتى العصور المظلمة، ولا يقبلون عنهم بدلا.
إن الداء المستعصي الذي أعيا من يداويه في مجتمعاتنا هو التخلف. ولا أقصد التخلف في مجال الصناعة والتكنولوجيا، فهناك الكثير من المجتمعات المتقدمة التي لا تنتج صناعات ثقيلة، أو تكنولوجيا متطورة. وإنما أعني التخلف عن الركب الحضاري، التخلف الزماني، تخلف العقل عن الجسم، حيث تقدر المسافة الفاصلة بين الاثنين- العقل والجسم- بأكثر من ألف عام. فجسم المتخلف يعيش بين أحياء القرن الواحد والعشرين، وعقله يرتع في مقابر أموات القرن العاشر الميلادي التي اندثرت، مما يسبب تخلفا في العلاقات الاجتماعية، وتخلفا في أسلوب التعاطي مع الحياة، وتخلفا في طريقة التفكير، وتخلفا في تربية الأبناء، وتخلفا في فهم الأمور والحكم عليها، والتعامل معها. لأنه لا يمكن استخدام مقاييس الماضي البعيد للتعامل مع الحاضر والمستقبل، كما لا يمكن الاعتماد على قوانين العصور الوسطى المظلمة لتفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية الحالية، وحل مشاكل الحياة التي تغيرت، وتحسين ظروفها. ولهذا ما زالت حتى الآن كثرة من قبائلنا تستعظم أن تكون قدم الإنسان قد وطئت وجه القمر. وتظن- وهي على قناعة تامة من ظنونها- أن الجن تشارك الإنس في زوجاتهم وتولج معهم، وأنهم- أي الجن- يدخلون جسم الإنسان من دبره، ويدرسون الطب والعلوم مثلنا، وفيهم الجن الشيوعي والليبرالي والإسلامي، وأن الجن المسلم يحارب مع المجاهدين، وأن الله بحاجة لمن يقاتل عنه، ويحمي عرشه، وأن المرأة ناقصة عقل ودين، وكل ما فيها عورة يجب سترها كي لا تؤذي مشاعر المسلمين، ويعالجون الأمراض بالرقى والتعاويذ. ولهذا أيضا بقي إلى عهد قريب جدا بعض (علمائنا) يفتون أن الأرض مسطحة وثابتة، ويكفرون من يؤمن بغير ذاك. وأن الشمس والأفلاك تدور حولها. وليس هذا فحسب، بل إن الشمس هي التي تسير يوميا من المشرق إلى المغرب، وتسجد أمام العرش، ثم تعود إلى نقطة انطلاقها، لتعاود سيرها الأزلي. وللحديث صلة.

[email protected]