كثيراً ما يُواجهني سؤال مفاده: لماذا تنتقد بحدة الصحوة والفكر الصحوي؟
مباشرة؛ ودونما أية مجاملة أو مواربة، أو عبارات اعتذارية كما جرت العادة عند التعرض لمثل هذه القضايا ذات الأبعاد الحساسة، أقول : السبب أنني أرى أن هذا الفكر الطارئ، أو (الفرقة) التي قامت وانتشرت مؤخراً، وتسمّـت بهذا الاسم، تفترض أن ثمّة (نقطة) تاريخية فاصلة بين الماضي القريب و بين الراهن الحالي، فما قبل هذه النقطة، كان المسلمون في (غفوة)، أو إن شئت : في سُـبات عميق، وحينما جاءت هذه (الفرقة)، أيقظتهم، فعمّ الإسلامُ كل أرجاء البلاد الإسلامية ! .. يقول الدكتور سفر الحوالي ndash; مثلاً - وهو من كبار الصحويين في دفاعه عن الصحوة : (الصحوة الإسلامية هي توبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أمة كانت ضالة (!) شاردة (!) بعيدة عن أمر الله (!)، ثم اهتدت إلى طريق الله وإلى كتابه وإلى سنة رسوله فما الشذوذ وما الغرابة من هذه الصحوة؟) . وهذا ما هو مرفوض من حيث المبدأ بالنسبة لنا .. معنى ذلك أن أبي و أباك، وربما جدي وجدك، فضلاً عَـنّا جميعاً (كنا) نعيش في (مجتمع ضال)، (شارد)، وبعيد عن (أمر الله) - كما يقول الحوالي - حتى جاء الصحويون فأوقظونا من سباتنا وغفوتنا ! . فهل ثمة طفل، ناهيك عن عاقل، يقبلُ بمثل هذه المعادلة؟
هذه الفرقة ndash; في حقيقتها - تقوم وتنطلق على أساس (سياسي) محض. فالصحويون يجعلون السياسة على درجة متوازية من حيث الأولوية مع (العقيدة)؛ وهنا بيت القصيد ومربط الفرس كما يقولون.
وهذا ما جعل بعضهم يُصرح جَهراً أن (توحيد الحاكمية) هو من أقسام التوحيد؛ ليس انطلاقاً من كونه جزءاً من توحيد (الربوبية) أو (الألوهية) كما هو الوضع في الخطاب (السلفي) المعروف تاريخياً، والذي نؤمن به جميعاً ، وإنما يضعونه بشكل (مستقل)، مضافاً إلى بقية أنواع التوحيد الثلاثة .. أي أن (لا إله إلا الله) في تعريفهم : تعني لا (حاكم) إلا الله كما هي عند الخوارج. وهُـم بذلك، ومن خلال هذه الإضافة (المحدثة)، والمصممة (بعناية) لخدمة أهدافهم السياسية، يُريدون أن يرفعوا القضايا السياسية إلى مستوى القضايا العقدية، مع أن مسائل (السياسة) هي شأن فقهي لا عقدي طوال تاريخ الإسلام .. يقول أحد كبرائهم ومنظريهم الإخواني (محمد قطب) الذي كان أستاذاً بجامعة أم القرى في المملكة في كتابه : (مفاهيم ينبغي أن تصحح) : ( ولا بد أن نستعيد في ذاكرتنا مقتضيات لا إله إلا الله كما وعاها الجيل الأول، من تعليم الله رسوله صلى الله عليه وسلم : مقتضاها الأول : هو توحيد الربوبية والألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات (أي توحيد الاعتقاد) . ومقتضاها الثاني : هو توجــيه العبادة لله وحده بلا شريك (أي توحـــيد العبادة) . ومقتضاها الثالث : هو (تحكيم) شريعة الله وحدها دون غيرها من الشرائع (أي توحيد الحاكمية) ...) انتهى . ويقول أبوقتادة الفلسطيني (عمر محمود أبو عمر)عن توحيد الحاكمية ما نصه : (أن هذا النوع من التوحيد جاءت به الشريعة، والقرآن والسنة دالان عليه دلالة صريحة لا ينكر موضوعه إلا كافر أو جاهل)!.
ولأن (فكرة التنظيم السياسي) هي أساس (الصحوة)، فإن الراصد المتتبع لخطاب ناشطيهم ودعاتهم، يجد أنهم يُـدافعون عن تنظيماتهم، ويتعاملون مع خصومهم، ويَصفون الذين هم ضد اختزال الإسلام في (تنظيم) أو حركة، بأنه (علماني) بالضرورة.
وهم بذلك - ربما دون أن يشعروا - يفترضون أن في الإسلام (سلكاً كهنوتياً)، وأن الذين يعترضون على تسلطهم، ويختلفون مع خطابهم، هم ضد الإسلام، بينما هم في الواقع ضد أن يكون في الإسلام ( سلك كهنوتي)، أو (تنظيم مؤسساتي صحويّ)، لأن الإسلام من حيث المنطلق، ومن ثوابته الأساسية، والتي لا يختلفُ عليها اثنان من أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص، لا يقبلُ بالفكرة الكهنوتية؛ فلم يَقم هذا الدين ndash; أبداً- على (مؤسسة دينية)، أو على رجال دين، أو كنيسة، وإنما على علماء وفقهاء، أو(أهل ذكر) كما وصفهم القرآن الكريم في الآية : (واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
والإسلام أمر بالطاعة (لأولي الأمر) خاصة، أو ذوي (الأمارة) على وجه التحديد والحصر في قوله تعالى : (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ولا صحة لمن يقول أن العلماء يشتركون مع الأمراء في مقتضى (الطاعة) بمعناها السياسي؛ فلم يعرف الإسلام طوال تاريخه، أن عالماً طلبَ لنفسه أو لفقهه أو لآرائه (الطاعة) أو(البيعة) من قبل تلاميذه أو متبعيه، كما هو العمل لدى تنظيمات الصحويين.
والعلماء هم (أهل الذكر)، وآراؤهم وتفسيراتهم في المسائل الفقهية احتمالية وليست قطعية؛ يقول الإمام الشافعي رحمه الله: ( رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتملُ الصواب).. ويصر الإمام مالك على ( كلنا رادٌ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر)، وأشار إلى قبره صلى الله عليه وسلم. حتى ذهب بعض العلماء مثل الإمام الحنبلي نجم الدين الطوفي رحمه الله ( من علماء القرن السابع الهجري) إلى القول : (إذا تعارضت المصلحة مع النص تقدمت المصلحة) ورغم ذلك لم يُـكفره أو (يُعلمنه) أحد. والعلماء أو الفقهاء أو أهل الذكر في الإسلام لا ينتظمون ضمن (تنظيم) أو قل: (كهنوت)، كما هو الأمر في المسيحية، وإنما هُـم (آحاد) وأفراد، يتفقون ويختلفون حسب اجتهاداتهم وفهمهم للأدلة؛ ولا يضر ndash; بالتالي - المُجتهد منهم اختلافه مع من هو أعلى منه منزلة، أو أقل منه منزلة من الناحية العلمية . يقول علماء الأصول : (لا إنكار من أحد على أحد في المسائل الاجتهادية، فالمجتهد لا ينكر على مجتهد مثله، والمقلد لا ينكر على مقلد مثله كذلك، بَلْهَ أن ينكر على مجتهد) . وهذا ما يلغي الكهنوتية أصلاً في دين الإسلام.
هذا هو الإسلام .
أما الصحويون، أو قل الفكر الصحوي، فيعملون من خلال (تنظيم) أو (جماعات) لها منظرون، ولها أسس فكرية، وكوادر وتباع ومريدون؛ وهم في الواقع وعند التدقيق والتمحيص، أولَ من أسس بذلك (الكهنوتية) في الدين الإسلامي؛ وهذه نقطة (مفصلية) في الخطاب الصحوي . لذلك فإن أحدهم ndash; مثلاً ndash; عندما يصفُ مناوئيه في الطرح والفكر بأنهم (علمانيون)، فهو ndash; دون أن يعيndash; يُثبت أنه يُدافع ويَـذب عن (سلك كهنوتي)، وليس عن الدين؛ فإذا كان هذا الدين يرفض الكهنوتية من حيث المبدأ، ويُقرر أن الاختلاف مشروع، وكلنا راد ومردود عليه، فما الداعي إذن للعلمانية، وهل هناك عاقل يُصارع طواحين الهواء؟.. إصرارهم على أن الذي يَـختلف معهم هو (علماني) بالضرورة، يعني تلقائياً أن ثمة (كهان وكهنوتية) في الإسلام في (المسكوت) عنه من خطابهم؛ وكأنما هم حينما يُـدافعون عنه ndash; أعني عن السلك الكهنوتي - يكررون نفس الموقف الذي مارسه (أساطين الكنيسة) في صراعهم مع العلمانيين في أوروبا. وأنا على يقين أن كثيراً ممن تعوّدوا على وصف مخالفيهم بالعلمانيين، وبالذات من صغار (الصحويين) الذين لا يدركون هذا البعد المعرفي في فرقة (الصحوة) الإسلامية، ولا يعرفون أن مجرد وجود (كهنوت) أو تنظيم، أو بناء هيكلي مُنظم، أو مؤسسة دينية، أو حزب أو فرقة أو حركة بالمعنى السياسي، أو رجال دين يحتكرون تفسير الإسلام، هو من حيث المبدأ فكرة (مرفوضة) على (الإطلاق) في الإسلام؛ لأنها في النتيجة (ممارسة كهنوتية).
ولعل (البيانات) التي يُصدرها بعض طلبة العلم السعوديين هذه الأيام تصبُ دون أن يعوا في إثبات ما أقول؛ فمثل هذه البيانات التي لم يكن لها سابقة في التاريخ الإسلامي، أراد منها (أساطين الصحوة) - على ما يبدو - تكريس فكرة (الكهنوت) في الإسلام في أذهان مريديهم، وترويجها، وإذعان الناس لسطوتها وسلطتها، للانتهاء بهذا الدين العظيم إلى أن يكون له (سلك كهنوتي)، أو (مرجعية دينية) واجبة الطاعة والانصياع لقراراتها، يتولى (الصحويون) منها محل القيادة. تماماً كما كانت الكنيسة في أوروبا؛ وهنا مكمن خطورة هذا الفكر.
كما أن هذه الفرقة تعتمد العمل الإسلامي السياسي من خلال تنظيم لا يتوقف عند (الفتوى) وتبصير الناس بشؤون دينهم ودنياهم من منطلقات شرعية، وإنما يتجاوزها إلى العمل السياسي المنظم وهو الأصل والغاية في مرامي فرقتهم، والذي يستحلون فيه كل المحرمات، حتى الرياء و النفاق، وتقسيم العمل والمهام من منطلقات حزبية سياسية بحتة، وتعمّد إبداء (ظاهرٍ) يختلفُ مع (الباطن) والهدف والنية؛ طالما أنه يخدمُ أهدافهم وغاياتهم السياسية. فمثلاً ها هو الدكتور صلاح الصاوي، الإخواني الذي سبق وأن درّس في جامعة (أم القرى) بمكة، وهو من أساطينهم، ومعلميهم، ومنظريهم، يقول في كتابه (الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي) ما نصه : ( ولا يبعد القول بأن مصلحة العمل الإسلامي قد تقتضي أن يقوم فريق من رجاله ببعض هذه الأعمال (الجهادية), ويُـظهر النكير عليها آخرون)!.. بل هم لا يتورعون عن الكذب و الافتراء إذا كان الهدف مصلحة الصحوة . يقول الأستاذ يوسف أبا الخيل الكاتب المعروف في مقال له في جريدة الرياض السعودية إن أحد المتصدين للفتوى من مشايخ الصحوة سُـأل عن جواز الكذب لنصرة الصحوة، فأجاب بأنه جائز لمحاربة أهل الفسق؛ وخلص - كما يقول الأستاذ أبا الخيل - إلى الجواب استناداً إلى جواز مخادعة العدو في الحرب مستدلاً بحديث جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : (الحرب خدعة)، فأفتى بأنه يدخل في ذلك السعي (للفتك) برأس من رؤوس الكفر والإلحاد والعلمنة والفسق المحادين لله ورسوله ! . ويُعلق الأستاذ أبا الخيل : ( وضابط جواز الكذب أو وجوبه عنده كما عند كافة ممثلي ذلك الخطاب أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح، إن كان المقصود مباحا، وإن كان واجباً فالكذب واجب)! .
وأصحاب الحركات والتنظيمات الإسلامية، كما هم الصحويون، يحاولون دائماً أن يفعّـلوا (قيم) الإسلام الأخلاقية فيما بينهم وبين كوادرهم على وجه الحصر، بينما يتعاملون مع غيرهم خارج التنظيم، أو خارج (الكهنوت)، على أنهم أعداء، يجب أن يتعاملوا معهم بالغلظة إذا لم يكن بالسيف والكلاشنكوف والسيارات الملغمة .. اقرأ كيف يتم اختزال هذه القيم الإسلامية النبيلة في هذا (التعميم) لكوادر إحدى التنظيمات الإسلامية : ( ... يقول الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ [آل عمران: 103].. ويقول في آية أخرى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118، 119].. يتضح التوجيه الإلهي الأول في الإرشاد إلى واجب وحدة الصف والاعتصام بحبل الله الواحد، وعدم التفرق والتنابذ، وفي الآية الأخرى يقرر الله جل جلاله حقيقة وقوع الاختلاف بين الناس مما فرّقهم إلى أمم وشعوب ومذاهب، وقد يبدو أن واجب الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، وواجب الولاية والمناصرة بين المؤمنين الذي تؤكده الآية الأولى يتعارض مع هذا (الخلاف) الفطري الذي ابتلانا الله به بين أمة وأمة، وفئة وفئة، وفرد وفرد، فالولاية تقتضي لمّ الشعث بين الآراء والإرادات والأنانيات بضبط النفس وتهذيبها وتوطيدها على التعاون مع المؤمنين والذلة لهم ـ أي السهولة واللين ـ وفي المقابل تقتضي النفس الجامحة المستروحة بريح الخلاف أن ينتصر لها المرء في مواجهة أقرانه، وأن يتعصّب حتى القتال! ) .. إلى أن يقول : ( ... وبالرغم من ذلك فلا مناص من اتخاذ تدابير (تنظيمية) لحسم الخلاف، أهمها ردّ الشيء المتنازع عليه إلى الله ورسوله بقبول حكم الأمير (يقصد أمير الجماعة) وتوجيهه لأن ( رأي الأمير يرفع الخلاف)، وسنذكر غيرها بعد حين إن شاء الله. قال شارح العقيدة الطحاوية في طاعة أولي الأمر: ( وقد دلّت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر وإمام الصلاة والحاكم وأمير الحرب وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد. وليس عليه أن يطيع أتباعه (انتبهوا) في موارد الاجتهاد. بل عليهم طاعته في ذلك. وترك رأيهم لرأيه. فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من المسائل الجزئية). انتهى .. في هذا البيان التنظيمي يتضح بجلاء أن الفكر الصحوي المسيّس يسعى إلى توظيف الأقوال السلفية، ليس لخدمة الإسلام، وإنما لخدمة التنظيم، وتوثيق العرى بين أتباعه . لاحظوا أن الطاعة : أصبحت طاعة (أمير التنظيم) وليس لمن يقف على رأس الهرم السياسي كما في كل الدول التي عرفها تاريخ الإسلام . ورأي (شارح) العقيدة الطحاوية (هنا) جرى توظيفه بذكاء ليصب في مصلحة التنظيم نفسه، وترسيخ انصياع أعضاء التنظيم لقادتهم وأمرائهم؛ بحيث يظهر هذا (التعميم)، لدى كوادر التنظيم، على أنه تعميم (مؤصّل) من الناحية الفقهية، وله مرجعية، ويستمد شرعيته من كبار الكتب السلفية، بينما كان يقصد الشارح - كما هو واضح - أمة الإسلام قاطبة، وليس أعضاء (التنظيم) خاصة. وهم يتعاملون على أنهم دون غيرهم المسلمون، وبالتالي فيجب على الجميع الخضوع إلى آرائهم، وفتاويهم . ومن يقف ضد مشاريعهم السياسية فهو مناوئ لله جل شأنه، ومعاد لشريعة الإسلام.
والسياسة تجلت بكل وضوح في موقفهم الرافض للقوات الأجنبية في حرب تحرير الكويت. ولأنهم سياسيون، ولأن السياسة، لا العقيدة، هي لعبتهم، وقفوا في نفس الخندق مع صدام حسين، مع أن عقيدة وتوجهات صدام ونظامه تتناقض مع أسس العقيدة، بكل المقاييس، وحتى مع (الحاكمية) التي يرفعونها كشعار؛ ومع ذلك تجاوزوا كل هذه الثوابت، وتحولوا إلى (طابور خامس) لمن يتحفز للانقضاض على وطنهم؛ كل ذلك لأن (ثابتهم) الأول هو الحكم، أو على الأقل الوصاية على المجتمع، والتحكم في تسييره كما يطمحون. ورغم مرور ما يقارب الخمسة عشر سنة على تحرير الكويت لم يُقدّم واحدٌ من أساطينهم ما يفيد صراحة أنه تخلى عن خطه ذاك صراحة ودون لف ودوران، مما يجعل عودتهم محتملة متى ما جاءت فرصة، أو حتى ربع فرصة، يرونَ فيه بصيص أمل لتحقيق (الدولة الصحوية).
وفي لعبتهم السياسية في المملكة يوظفون كل ما في استطاعتهم توظيفه لخدمة طموحاتهم في (الوصاية على المجتمع). ولأنهم يعرفون أن المجتمع السعودي مجتمع (محافظ)، ولدى أغلبيته حساسية مفرطة في كل ما يتلعق بقضايا (المرأة)، ومنحها حقوقها، فإن الخطاب الصحوي يطرح نفسه كممثل (للحفاظ) على هذه القيم والتقاليد والأعراف الاجتماعية المحافظة، و(حمايتها) من أية ممارسة إدارية أو تنظيمية أو تحديثية يقوم بها المسؤولون السعوديون لإحداث أي نوع من أنواع (التوازن) بين المرأة والرجل فيما يتعلق بفرص العمل ولو كان ضئيلاً . يقول الصحوي محمد الهبدان، وهو من صغارهم الذين يطمحون إلى القيادة و(النجومية) معترضاً على أحد القرارات الحكومية التي تسعى لحل (معضلة) عمل المرأة في المملكة : ( ... نعم أنا أعلم أن من النساء من هي فقيرة وربما ألجأها الفقر إلى قضايا أخلاقية.. والحل ليس في توظيفها وترك الشباب في مثل وقتنا الذي قلت فيه الفرص الوظائفية).. ويستعرض حلولاً يأتي على رأس أولوياتها : ( أن تقوم الدولة في تأمين حاجة تلك المرأة ، وتنفيس كربتها، من خلال صرف (مكافأة) شهرية من بيت مال المسلمين كما هو المعمول به في دولة الكويت (كذا!)، ونحن ولله الحمد في الآونة الأخيرة أنعم الله تعالى علينا بنعم عظيمة، ومن سبل المحافظة عليها الإنفاق على ذوي الحاجة والفاقة)! . ولستُ في حاجة لإثبات سذاجة هذا الحل، وبعده عن (الواقعية)، غير أننا إذا عرفنا السبب بطل العجب. كما أن هذا الحل الساذج يقودنا إلى مفهوم (فلسفة العمل) عند الصحويين؛ فالعمل في ذهن هذا الصحوي ليس عقداً مرتبطاً (بالإنتاج) والعطاء، ولا بالتنمية والاقتصاد، بقدر ما هو مرتبط بتحقيق (مكافأة) أو (أعطية) للمرأة لتسد رمق جوعها واحتياجاتها ليس إلا ! . والهبدان مازال من صغارهم، وثمة من هو أدهى وأذكى من أن يقول بمثل هذا الطرح الساذج، فضلاً عن أن يُدافع عنه؛ غير أن هذا المقترح يحملُ في مضامينه (مؤشراً) في غاية الدلالة لكيفية (توظيف وتفعيل) حساسية قضايا المرأة بالنسبة للمجتمع السعودي المحافظ ، لتصب في مصالحهم السياسية كفرقة أو كحزب صحوي. وإلا كيف نفهم موقفهم المؤيد لمنظمة حماس الفلسطينية، واحتفالهم بها، وإقامة الموائد لأعضائها عندما قدموا للسعودية، وإصدارهم البيانات في دعمها، رغم أن حماس نفسها عيّنت (وزيرة) في حكومتها كما هو معروف، ومع ذلك لم ينبز واحدٌ منهم بكلمة واحدة (تدين) مثل هذا التصرف، الذي هو في خطابهم الموجه للسعوديين (خاصة) يُعتبر ممارسة علمانيةً.
وفي النتيجة، ماذا جنينا من هذا الفكر سوى الإرهاب، والإساءة لسمعة هذا الدين، وإدخال الاسلام والمسلمين إلى قفص الاتهام؛ فأصبح المسلمون بفعلهم وفعل ممارساتهم الدينية، محلَ شك وريبة واتهام في كل زاوية من زوايا العالم، من خلال تكريس فكر البغضاء والكراهية (للآخر) في أذهان النشء فضلاً عن العامة، والحض على (الإرهاب) بحكم أنه ضربٌ من ضروب الجهاد،. ورغم أن بعض أساطين هذا الفكر تنبه إلى (الورطة) التي أوصلوا إليها بلدانهم، فضلاً عن مريديهم، فتراجعوا شكلياً ؛ إلا أن أساس ما يسمى بالعمل الصحوي المسيّس الذي زرعوه ونادوا به طوال العقدين الماضيين مازالً فاعلاً ومؤثراً وقوياَ.
ولا يغرنك قول بعضهم أن علاقتنا (كصحويين) بالإرهاب وأساطينه علاقة يدّعيها المناوئون، بينما أن الواقع يُثبت خلاف ذلك . فها هو أحد كبار وقادة (القاعدة) الإرهابي الصحوي (يوسف العييري)، والذي هلك في إحدى مواجهات القاعدة مع قوى الأمن في المملكة، يقول في رسالة أرسلها إلى الشيخ الصحوي سلمان العوده يعاتبه على (نكوصه)، وجنوحه إلى (التخلي) عن أهم أساسيات الصحوة : ( فنحن نعلم يقيناً أن صحوتنا المباركة بصوتكم سمع نداءها، وبمجهودكم غيّـرت الواقع، وبفكركم وتوجيهكم اتزن نهجها، فلكم الفضل بعد الله فوق فضل غيركم من العلماء والدعاة فيما حققته هذه الصحوة، علماً أنا ما تعلمنا المنهج إلا من فضيلتكم!) . ويُعلق على ذلك الباحث السعودي الأستاذ سعود القحطاني قائلاً : ( فالمنهج الثوري الذي زرعه العودة وأقرانه من مشايخ الصحويين في قلب العييري وأمثاله من الشباب أكبر من أن يتزحزح لأي سبب كان. فالإنسان المؤدلج -بطبعه- لا يستطيع أن يتخلي عن أيديولوجيته بسهولة).
مما تقدم، يتضح لنا بجلاء أن (الصحوة) هي التي فجرت منابع الإرهاب، وأن (أدلجة) المذهب السني أدلجة سياسية محضة هي (قلب) الصحوة النابض. وأن فكرة (التنظيم/ الكهنوت) هو (الوسيلة) وهو أس البلاء، وأن استثمار (قضايا المرأة) السعودية هو استثمار سياسي بحت، وأن مذهب (أهل السنة والجماعة) شيء، والصحوة في جوهرها وأهدافها شيء آخر.
وختاماً أدَعُ لكم الحكمَ على رؤيتي هذه.