نظريات المؤامرة أسلوب شائع لتفسير الأحداث السياسية الداخلية والدولية في العالم أجمع و هي ليست حكراً على شعب أو فئة دون أخرى. لكن الملاحظ أن إنتشار هذا النمط من التفكير يتناسب عكسياً مع درجة الإنفتاح الثقافي والسياسي في المجتمع. فنرى مثلاً أن نظريات المؤامرة في البلدان الغربية قد تنشر في كتب أو منشورات من النوع الذي يقرؤه العامة ولكن عموماً لا تؤخذ على محمل الجد. فلا يمكن أن تجد صحيفة أو مجلة رصينة في الغرب تعطي مصداقية للتحليلات التآمرية. لكن الحال هو غير ذلك في الفكر العربي والإسلامي المعاصر حيث أصبح نمط نظريات المؤامرة هو الطاغي غالباً دون منازع في تفسير كل ما يلم بمجتمعاتنا العربية المريضة من مشاكل. ولا يقتصر استخدام هذا الأسلوب على العامة أو أنصاف المثقفين كما هو الحال في الغرب بل يتعداه ليشمل معظم شرائح النخبة المثقفة بما فيها الطبقات السياسية (الحاكمة والمعارضة).

فنرى وسائل الإعلام العربية المكتوبة والمسموعة والمرئية تبث سيلاً متواصلاً من النظريات التي تنحي باللائمة على أيدي خفية غالباً ما تكون أجنبية (الصهيونية أو الإمبريالية أو الصليبيين الخ) لتفسير الإخفاقات المتنوعة التي تعاني منها مجتمعاتنا و دون أي مبالاة لتقديم الأدلة المادية لدعم مثل هذه النظريات. حتى أصبحت الكثير من هذه الخرافات هي بحكم المسلمات التي لا يشكك فيها عاقل.
السؤال هو: ما هو تفسير هذا الأنتشار الوبائي لنظريات المؤامرة بين العرب والمسلمين على الرغم من الأنفتاح الإعلامي الهائل في العشر سنوات الأخيرة ؟ وهل من ضرر في مثل هذا النمط من التفكير؟

في البدء أود أن أفرق بين الإنفتاح الإعلامي والانفتاح الثقافي. لا شك أن العشر سنوات الأخيرة شهدت إنفتاحاً إعلامياً كبيراً وذلك بفضل الفضائيات العربية المرئية التي تبث على الأغلب من البلدان الأوروبية. ولكن هذا الإنفتاح الإعلامي لم يصاحبه إنفتاحاً ثقافياً حيث بقيت المسلمات الدينية والثقافية الجوهرية بمنأى عن أي مراجعة أو مناقشة جدية. والدليل على ذلك أنه عندما ثارت مشكلة الرسوم الكاريكاتيرية في الدانيمارك لم تمتلك ولو فضائية عربية واحدة الجرأة لمناقشة هذه المسألة بشكل موضوعي . وذلك يدل على أنه على الرغم من الإمكانيات التقنية والحرية السياسية فإن مساحة التابو (المحرمات الثقافية) لم تتزحزح كثيراً. وهذا يعني أن الكاتب والمثقف والفرد العربي العادي يجد نفسه سجين مسلمات ثقافية و حضارية (ودينية) لا يحق لأحد تسليط الضوء عليها وبالتالي الخيار الأوحد هو أبقاؤها في الخفاء والدفاع المستميت لإبقائها في منأى عن أي مساءلة.

لذلك نرى أنه على العكس مما يجري في بقية أنحاء العالم (غير المسلم) فإن الإنفتاح السياسي (زيادة مساحة حرية التعبير) في الكثير من البلدان العربية لم يؤدي بشكل تلقائي الى نمو الممارسة الديمقراطية في هذه البلدان بل على العكس (و هذا ما لم يكن متوقعاً) أدى الى إزدياد التطرف الديني و الكبت على حرية التعبير. كيف ولماذا حصل ذلك؟

فلنسأل ما هو سر جاذبية نظريات المؤامرة للعرب و المسلمين؟ إن لنظريات المؤامرة فائدة كبرى لمروجيها الا و هي إلقاء اللوم على الآخر و بالتالي تبرأة الذات من أية مسؤولية. طبعاً الذات هنا قد تشير الى الذات القومية أو الدينية أو الطائفية. إن القاء اللوم على الآخر كذلك يبطل الحاجة لمعرفة الذات أو مراجعة أو مساءلة الذات. لذا فمن الممكن أن لمروجي نظريات المؤامرة الحفاظ على مسلماتهم القومية أو العقائدية و في نفس الوقت إعطاء تفسير مقبول لما يحدث في العالم من حولهم. لكن المشكلة في الإفراط في إستخدام هذا النمط التآمري من التفكير غير المدعوم بالأدلة المادية يؤدي مع مرور الوقت الى إنفصام متزايد عن الواقع و بالتالي الى تشوش و إضطراب في القرارات و التي تؤدي بشكل متزايد الى فوضى و فشل في كافة المجالات.
إن مساحة التابو (المنطقة المحرمة) الثقافي أو الحضاري هي التي تحدد مدى اللجوء الى التفسيرات التآمرية. فكلما إتسعت مساحة المفاهيم التي لا يجوز نقدها أو حتى فهمها إزدادت الحاجة الى إبتداع و إختراع أسباب خارجية (غالباَ ما تكون وهمية) لتفسير إخفاقاتنا و تخبطنا.
إن من سوء الحظ أن التاريخ العربي الحديث قد زود العرب بشماعة جاهزة لتعليق كافة إخفاقاقاتهم (إسرائيل) و كذلك مصدراً للرزق لا يحتاج الى إستخدام العقل البشري (النفط) مما أدى الى إخفاء الإخفاقات المريعة التي تعاني منها المجتمعات العربية أوتسهيل إلقاء اللوم لهذا الإخفاق على جهات خارجية.

إن من المؤسف أن آلاف الأطنان من الحبر قد بددت وهدرت في ترويج خرافات و في حياكة قصص عن مؤامرات من نسج الخيال بدلاً من الكشف عن و البحث في مشاكل حقيقية تعاني منها الشعوب و المجتمعات العربية. فمثلاً كان علينا أن نسأل هل موجة الإرهاب العالمي الحالية مصدره الدين الإسلامي (لا أشير هنا الى مذهب دون آخر و إنما الى الدين الإسلامي برمته)؟ فإن كان كذلك فما هو السبيل لمعالجة مثل هذه العلة؟ هل يعود تأخر الجامعات العربية في مجال الأبحاث العلمية و الثقافية الى الكبت الفكري الناتج عن تسلط الفكر الديني؟ أليس من أسباب تخلفنا الإقتصادي هو القيود المفروضة على نصف المجتمع (النساء)؟ هل يتمتع غير المسلمين بحقوق المواطنة الكاملة في البلدان العربية وما هي العوائق لمنحهم مثل هذه الحقوق؟ إن البحث المتعمق للإجابة على مثل هذه الأسئلة و المئات غيرها و إيجاد الحلول الممكنة لها هو ما نحتاجه و ليس حياكة المزيد من النظريات السطحية و التبسيطية عن مؤامرات خيالية. إن حشو عقول الشباب العربي المسلم بسيناريوهات مفبركة عن أعداء وهميين جل همهم في الحياة هو تدمير حضارتنا وسرقة ثرواتنا واسترقاقنا وتخريب تراثنا هو السبب الأساس في ثقافة العنف المنتشرة في هذه البلدان.

إن الإستمرار في الترويج لأسلوب نظريات المؤامرة في البيئة الحضارية العربية والإسلامية هي وصفة لتفشي التطرف المفرط والطريق الأكيد نحو هاوية حضارية واجتماعية ستكون نتائجها وخيمة على الجميع. إن العنف الإرهابي الإسلامي المتفشي في الكثير من أنحاء العالم والمتمثل في أبشع أشكاله في العراق هو أحد النتائج الكارثية لهذا النمط من التفكير ولهذه الثقافة.
إن إبقاء مساحة التابو الثقافي على ما هو عليه (أو حتى توسيعها) هو الطريق الأكيد لإبقاء المجتمعات العربية في حالة تخلف حضاري واقتصادي وأخلاقي لن تنفع كل أموال النفط في معالجته.