تفاعلنا مع الحياة وانخرطنا في مسيرتها، منذ أن بدأت براعمنا تتفتح، وأزهارنا تعقد الثمار. كان الزمن نهاية الستينات، وأوائل السبعينات من القرن الماضي، وكان عالما مختلفا عن عالم اليوم فكرا وأهدافا وثقافة وأخلاقا وعلاقات.
كنا نتدفق عاطفة، ونتفجر شبابا وعنفوانا. الدماء تغلي في عروقنا، والحماس يشتعل في رؤوسنا. يغمر قلوبنا حب التضحية، ويبهرنا اقتحام المخاطر. وقصص البطولة والشجاعة تهز وجداننا، وتطربنا، وتغني السهرات.
كان العالم خريطتنا، والأرض العربية ملعبنا. كانت طموحاتنا جامحة، فخيل لنا أن بمقدورنا تغيير ديارنا، وبقاع العالم أجمع. أهدافنا الحرية والعدل والإنسان والمساواة، واجتثاث الفقر والجهل والخرافات.
كنا على قناعة تامة أن العالم بأكمله يحسدنا على ما حُبيت به أمتنا وديارنا، وعلى قيمنا وثوابتنا وأخلاقنا، ويلهث خائبا وراءنا كي يلحق بنا ويدركنا. فأدركنا وتفهمنا لماذا تمنع حكوماتنا وقوانيننا، الجنسية العربية عن الآخرين، وأكبرنا فيهم هذا الموقف، وباركنا تلك القوانين.
كنا نفخر بأننا أحفاد خير أمة قد أُخرجت للناس. نعتز بتاريخنا وتراثنا، ونزهو بفتوحاتنا- كنا نسميها فتوحات- ونتباهى بحضارتنا، ونغني: (أمجاد يا عرب أمجاد).
كنا نتبارى في تعداد مآثر الخلافات العظيمة التي بنت أمتنا وإنساننا، وكونت شخصيتنا ومفاهيمنا وأخلاقنا، فنقول إن خلافة الراشدين قضت على المرتدين ووحدت المسلمين. والخلفاء الأمويين فتحوا البلدان ووسعوا رقعة الدولة العربية. والخلفاء العباسيين نشروا العلم ورعوا والعلماء. والخلافة العثمانية قضت على الروم وفتحت القسطنطينية ردا على احتلال الأسبان للأندلس.
وكنا رغم كرهنا لحصص اللغة العربية، وكثرة حشوها ومرادفاتها، وحروفها الكافة والمكفوفة، والزائدة، وتكاثر مفعولاتها، وأفعالها الناقصة والمنقوصة والمهموزة والمقصورة والممدودة، ولازمها ومتعديها، وتصريفاتها، وأشباه أفعالها وأسمائها، ومعاناتنا منها، ورسوب أكثرنا بها، نتفاخر بإعجازها، وبالضاد التي لا يقدر أن ينطقها غيرنا، وفصاحة أجدادنا، وبلاغتهم، وسحر بيانهم وبديعهم، ومدى هيبتهم، وقوة شكيمتهم، وعزة نفوسهم. وكان الشعر زادنا وحجتنا وبرهاننا، ومصدر فخرنا وكبريائنا، فننشد معتزين مغترين: (إذا بلغ الفطام لنا صبي ـ تخر له الجبابر ساجدينا).
كنا على يقين أن الاستعمار الذي احتل بلادنا قد سلبنا حريتنا وهدر كرامتنا، وأن الاستقلال الذي انتزعناه بوحدة شعوبنا، ودماء شهدائنا وأبطالنا، سيعيد لنا حريتنا المسلوبة، وكرامتنا المهدورة، ويدافع عنها، ويحميها بقوة الحق والقانون.
رفضنا أن نكون بين بين، أو شبابا يرضى بالحدود الوسطى، فإما كل شيء، أو لا شيء، وكنا نقتدي بأجدادنا، ونستشهد بموقفهم وقولهم: (ونحن أناس لا توسط بيننا ـ لنا الصدر دون العالمين أو القبر).
هكذا تربينا وتعلمنا منذ نعومة أظفارنا، وهكذا كانت قناعاتنا، وتكونت أخلاقنا ورغباتنا ورؤيتنا وتوجهاتنا.
لم نكن نسمع بشيوخ الفتاوى، وأمراء الطوائف، وحروب القبائل والمذاهب والأثنيات. ولم نعرف عن الأعراب شيئا مما يقال الآن عن تاريخهم وأفعالهم، وجهلهم وأخلاقهم، وسلبهم ونهبهم وسبيهم، وإسلامهم وإيمانهم، وما أنزل الله بشأنهم.
كانت صورة العراق في أذهاننا من خلال كتابه وشعراءه ومثقفيه، سبيكة متجانسة شديدة التماسك. وحالة فكرية إنسانية رائعة. وهكذا أيضا رأينا الجزائر بلد المليون شهيد، ورأينا الفلسطينيين من خلال فكرهم في ذلك الحين، وتوجهاتهم، ومنظماتهم.
كانت إسرائيل في نظرنا شرذمة من العصابات المفككة، الغير قادرة على بناء دولة عصرية، لأنها لا تملك مقوماتها، ولأن رجالها يلهثون وراء مصالحهم الشخصية، ويبيعون أهلهم بحفنة من المال. وإن أي حرب مقبلة معها، لن نحتاج فيها لأكثر من العصي والسكاكين، وبضع ساعات من النهار، ليعود اللاجئون إلى أراضيهم ومنازلهم، وتعود فلسطين حرة مستقلة عربية.
كان التعصب ألد أعدائنا. فلم نسأل يوما عن دين أصدقائنا وزملائنا. كان إيماننا أننا جنس واحد، يجمعنا وطن واحد، ويوحدنا هدف وطني واحد. وخصوصياتنا ملكنا، وحق مقدس لنا. ولم تكن واحدة من صديقاتنا أو زميلاتنا تظن أن في رأسها أو وجهها عيبا تخجل منه، فتخفيه عن أعين الآخرين
كنا على يقين، بأن المستقبل لنا والوطن لنا، وأننا أخوة في الأرض والتاريخ والعيش المشترك والبناء، وأحرار في تفكيرنا ومعتقداتنا واختياراتنا.
تلك كانت أحوالنا ومفاهيمنا، وقناعاتنا وآمالنا، ولم يخطر في بالنا أنها ستكون يوما من الأيام أوهاما.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات