بدا السيد حسن نصر الله على شاشات التلفزيون، عصر الخميس 8 مايس، مزهواً بقدرته على ردع خصومه السياسيين عن المساس بسلاح حزب الله، كما قال. وفي اليوم التالي شاهد العالم سيطرة مسلحي حزب الله وحركة أمل على بيروت. وهكذا نفذ السيد حسن تهديده بكسر العظم أو قطع اليد، حسب تعبيره، لخصومه وحاصرت قواته مكاتب المسؤولين الحكوميين وقصفوا وداهموا وأحرقوا مكاتب الصحف ومحطات التلفزيون الموالية لخصومهم، الخ وصارت شوارع بيروت تحت سيطرتهم المسلحة. ولا يهتم هذا المقال بالحجج والمعطيات التي أوردها ممثلو هذا الطرف أو ذاك، مما يندرج ضمن الصراعات الإيديولوجية أو صراع الارادات والمصالح السياسية المحلية والاقليمية والدولية ولا بالثرثرة السياسية المستخدمة هنا وهناك للتغطية على هذه المصلحة أو تلك، بل يهتم بتحليل مغزى ونتائج الخطوة الخطيرة التي أقدم عليها حزب الله والتي تمثلت باجتياح مسلحيه لبيروت وضرب مواقع خصومه السياسيين، حيث شكلت في رأيي مغامرة تسببت في خسائر كبيرة على المدى البعيد أو الاستراتيجي لحزب الله كحركة مقاومة وحتى كحركة سياسية، أما خسائر الخصوم (الموالاة) فرغم وضوحها تعد قياساً مؤقتة وقليلة الأهمية.
ويمكن اختصار هذه الخسائر بالشكل التالي:
1- استند حزب الله في مشروعيته وبجدارة على قضية المقاومة ولكنه برر الاحتفاظ بسلاحه بحجة أن قوات الاحتلال لم تنسحب تماماً (مزارع شبعه)، وقد أكد مراراً أنه لن يستخدم هذا السلاح إلا في حربه مع إسرائيل، ولكن اليوم سقطت هذه المصداقية على يد حزب الله نفسه عندما أقدم على استخدام هذا السلاح في حسم مفاوضاته وصراعاته مع الأطراف السياسية بقوة النار وبارتكاب اعتداءات واضحة على خصومه السياسيين.
2- الخسارة الأخرى المهمة تاريخياً في لبنان تمثلت في إقحام الشيعة اللبنانيين في هذه المغامرة، ولا أعني هنا التحالف السياسي لنبيه بري مع حزب الله ولا الحضور الكبير لمليشيا حركة أمل في عملية السيطرة والمداهمات وإحراق المكاتب لأن نبيه بري، ومن ورائه حركة أمل، يتصرف كما هو معروف كشخصية سياسية لها حساباتها وارتباطاتها، تماماً كما أن لميشيل عون حساباته كشخصية سياسية لبنانية. ولكن الخطير هو إقحام شيعة لبنان في هذه المغامرة، حيث انخرط المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى في الصراع الجاري وجيّر تحركات حزب الله ضد الحكومة من منطلق طائفي، من خلال التأكيد على رفضه تهميش الطائفة على يد حكومة غير شرعية. وتم كل ذلك (بيان المجلس وخطاب الشيخ قبلان)، يوم الخميس وقبيل خطاب السيد حسن نصر الله، مما أعطى لهذا الأخير quot;مصداقية طائفيةquot; إن صح التعبير، إضافة الى المصداقية المعلنة كمقاومة. وكان الأحرى بممثلي الطائفة الشيعية أن ينأوا بأنفسهم عن الصراعات السياسية وأن لا يخوضوا في موضوع الولاء أو عدم الولاء لإيران، فهم قبل كل شيء ممثلون لمواطنين لبنانيين ومن حق كل كيان تمثيلي للشيعية أن تكون له علاقات بإيران، إلا أن ربط نفسه بالسياسة الإيرانية يشكل خطأ كبيراً بحق من يُفترض فيه تمثيلهم. ومن المؤسف أن الشيخ القباني وقع في نفس المطب عندما صرح بأن المسلمين السنة قد ضاقوا ذرعاً، وقد تناسى الطرفان بأن الكثير من الشيعة كما السنة وغيرهم في لبنان قد ضاقوا ذرعاً بهذه الألاعيب السياسية والمغامرات التي تهدد مصالحهم في الاستقرار والتضامن يداً بيد من أجل بناء غد أفضل لأطفالهم. وتناسوا أيضاً أن اللبنانيين اللذين سيفرون الى الخارج، كما في كل مرة، هرباً من المواجهات المسلحة لن يقتصروا على طائفة معينة.
3- كشفت هذه الأحداث حقيقة أن حزب الله هو حزب سياسي كغيره، يريد الوصول الى السلطة ولكن مشكلته تكمن في أنه لم يستطع تجاوز تناقضاته الداخلية كتنظيم شيعي وديني أساساً، إذ لم يتمكن من تبني حل حقيقي لإشكالية المشاركة في العملية السياسية وقبول الأمر الواقع (الوضع الاجتماعي والثقافي) المخالف لقناعاته الفكرية والدينية ولم يتجاوز أيضاً تحالفاته الاقليمية (مع إيران وسوريا)، فسقط في فخ نوع آخر من الممانعة، أي تلك المتعلقة بالمشاركة الحقيقية والفاعلة في النظام السياسي والاجتماعي في لبنان، كل لبنان. وما يبدو على السطح منذ اجتاح بيروت هو تعبير عن تبني هذا الحزب لسياسة الهروب الى الأمام. وهذا ما تدلل عليه أيضاً النقطة التالية.
4- حتى كحزب سياسي يخطط للوصول الى السلطة أو المشاركة فيها، كشفت هذه الأحداث عن ضعف قدرة الحزب التي عُرف بها على تحليل المواقف السياسية واتخاذ القرارات الصائبة. فما هي أهداف حزب الله السياسية لقرار الدخول في مغامرة السيطرة على بيروت، وماذا يريد قادة حزب الله أن يفعلوه الآن؟ هل يحتفظوا ببيروت ويشكلوا حكومة مع حلفائهم ويفرضوها بقوة السلاح على بقية اللبنانيين؟؟ أم يأتوا بفؤاد السنيورة ويجبروه بقوة السلاح على التوقيع بما يريدوه من قرارات؟؟ وبعبارة أخرى، ماذا لو استمرت قوى الموالاة والحكومة تبني سياسة تجميد اللحظة السياسية الثقيلة التي يمر بها حزب الله وقياداته حالياً من خلال الامتناع عن اتخاذ أي قرار جديد (غير الطلب بانسحاب المسلحين طبعاً). فمما لا شك فيه أن حزب الله يمر حالياً في وضع سياسي لا يحسد عليه، وسيكون قراره بالغ الصعوبة للخروج من الأزمة/ الورطة التي وضع نفسه فيها.
5- وهكذا فان التحليل المتعمق للأحداث يبين بالنتيجة أن الحسابات الاقليمية لعبت لدى حزب الله وحلفائه الدور الأكبر في هذا القرار، نسبة الى الحسابات اللبنانية، وهذا لا يعني أني أتهم قيادات حزب الله بل المهم أن حساباتها وقراراتها تأثرت بالوضع الاقليمي ومجابهة إسرائيل وأمريكا أكثر من تركيزها على الأهم وهو نتائج هذه الخطوة على الصعيد الوطني اللبناني.
6- قد يقول البعض أن هذا دليل التحامهم بقضية المسلمين الأولى وبقضية العرب المقدسة، أقول أن هذا هو الدرس التاريخي الآخر لهذه المغامرة الخاسرة، فهذه ليست المرة الأولى التي يتطور فيها الالتحام بقضية فلسطين الى ممارسة دكتاتورية القمع والتسلط على الأطراف الأخرى بل وبقية المجتمع فقد حصل ذلك في مصر وسوريا والعراق، وبين القوى الفلسطينية نفسها، على مدى عقود أليمة ودامية، وكان فيمن مارس هذا التسلط من هو مخلص في quot;التحامهquot; بالقضية ومن استخدمها للصعود السياسي وتحقيق سيطرته بالقوة.
وفي كل الأحوال، ربما آن الأوان لكي يعيد العرب والمسلمون حساباتهم في أهمية تبني الآليات الحضارية والأخلاقية في حل الخلافات السياسية وبالنسبة للقضية الفلسطينية ضرورة حسم اختيارهم لحلها إما بتأييدهم لطريقة أبو مازن لتقويته في المفاوضات مع إسرائيل وانتزاع أفضل ما يمكن للشعب الفلسطيني بروح براغماتية واقعية أو الذهاب حقاً الى حرب جديدة مع هذا العدو والذي أثبتت تجربة أكثر من ستين عاماً أن مثل هذه الحرب أو حتى مشروعها لا يفيد في ظل الأوضاع العربية إلا المغامرين سواء كانوا مخلصين أو لا، ولا تقودنا بالتالي الا الى دكتاتوريات جديدة بشعاراتها ومآسيها وهزائمها المعروفة.
ولذلك كله يمكن اعتبار حزب الله الخاسر الأكبر على المدى البعيد من العملية التي قام بها يومي 8 و 9 مايس 2008 للسيطرة على بيروت وإخضاع خصومه السياسيين بقوة السلاح.
التعليقات