ينشر الرئيس الايراني ابتسامته الباهتة وهو يرد ـ في أثناء زيارته للولايات المتحدة ـ على سؤال الصحفيين عن quot;الديمقراطية في إيرانquot; بالقول بأن الشعب الايراني سعيد بالديمقراطية التي ينعم بها، وأن بامكان الصحفيين الغربيين أن يسألوا أي مواطن في شوارع طهران ليتأكدوا بأنفسهم من ذلك. وكان في الزيارة نفسها قد أضاف الى علم النفس حقيقة فريدة عندما قال في جامعة كولومبيا أن إيران خالية تماما من المثليين، فايران المقدسة تخلو من هذه الأمور. وفي خطابه في مقر الأمم المتحدة، الذي نسي فيه نفسه وتصور أنه في جامع فراح يدعو رؤساء العالم الى quot;الهدايةquot; الى السراط المستقيم، يلمس المرء كم أن هذا الرجل ماض بعيداً في انفصامه عن الواقع حتى بات متعذراً شفاؤه.
التشخيص المرضي ذاته يحوم حول إجابة quot;القائدquot; معمر القذافي على أسئلة الصحفيين الغربيين عن quot;الديمقراطية في ليبياquot;، عندما فاجأهم بالقول بأن ليبيا أعظم بلد ديمقراطي في العالم.
أما رئيس زيمبابوي روبرت موغابي الذي يمسك بالسلطة منذ أكثر من عقدين فيرد على المطالبين بالتداول الديمقراطي للسلطة بأنه هو من جاء بالديمقراطية الى البلاد!
لكن شيخ المنفصمين عن العالم هو بلا شك جورج دبليو بوش الذي لم تفلح أرقام الضحايا من العراقيين ومن الأمريكيين معاً ولا الأرقام الفلكية لتكاليف الحرب، ولا الوقائع الدموية اليومية، في إخراجه من وهم أن الحرب جلبت للعراق الخير.. كل الخير!
يبدو أنه حتى لو كان السياسي على اتصال بالحياة العامة قبل وصوله الى الحكم فانه ما أن يحكم حتى يدخل في عالم منعزل تفرضه ضرورات كثيرة: أمنية وبيروقراطية وسياسية، ويغدو من الصعب عليه أن ينظر الى الواقع بعينيه فينظر إليه بعيون مساعديه ومساعدي مساعديه، الذين سيكوّنون شبكة أو عدة شبكات من المصالح والنفوذ ترسل الى الحاكم ماشاء لها من التقارير التي تخدم منظورها وتلبي مصالحها، فتستخدمه بينما هو يتخيل أنه يستخدمها. أكثر الأمثلة تراجيدية على ذلك وقوف صدام حسين مذهولا إزاء quot;اختفاءquot; جيشه في لمح البصر ما أن دخل الأمريكان بغداد التي كان قد أعدها جيداً كمقبرة للغزاة! كل ذاك الولاء المطلق من الرتب العسكرية المتزاحمة على الأكتاف، ومن quot;الرفاقquot; الحزبيين، كل أفواج شيوخ العشائر التي كانت تزحف للقصر الجمهوري لتعلن quot;البيعةquot;، والآلاف التي كانت quot;تفديه بالروح، بالدم!quot;، وجوقات الشعراء، والمغنين، والتقارير اليومية التي تؤكد quot;متانة الجبهة الداخليةquot; وquot;جاهزية القواتquot;، ونسبة الـ 100% التي بايعته في آخر quot;استفتاءquot; أجراه...كلها تبخرت في دقائق. المثير للدهشة أن هذه الصدمة لم توقضه. وحتى حين رأى بعينيه العراقيين يتحدون الموت ويتوجهون بالملايين، وأحياناً مشيا على الأقدام عدة كيلومترات، الى صناديق الانتخاب وينتخبون غيره ويلعنون زمانه، فانه يصر على عدم اليقضة، واصفا كل هذه الملايين بالغوغاء، مع أن هؤلاء أنفسهم هم من quot;بايعوهquot; بنسبة 100% قبل سنة واحدة فقط من الغزو، لكن آنذاك كان إسمهم الشعب العظيم وليس الغوغاء.
ثم تتكشف يوما بعد يوم خفايا الحقبة الصدامية ليتبين أن شبكات المصالح والنفوذ، إضافة الى شبكة الخوف الشاملة، قد أخفت عن قائدها المفدى الكثير من المعلومات الخطيرة، وضللته بتقارير كاذبة وحتى بمشاريع تسليحية كبرى كانت مجرد حبر على ورق يعرف واضعوها أنها مستحيلة التنفيذ بينما يتبجح هو بها ويهدد بها القوى العظمى! إذا كانت التراتبية البيروقراطية حالة رئيسية في الجهاز الاداري للدول فانها في عراق صدام كانت حالة ثانوية فيما كان الرئيسي هو تراتبية القمع ومعادلتها تراتبية الخوف: كلٌ يقمع الأدنى منه، وكلٌ يخاف ممن أعلى منه رتبة أو وظيفة أو quot;درجة حزبيةquot;، وهذا الخوف يؤدي بطبيعة الحال الى الكذب، فيخفي الموظف المدني والضابط العسكري الخطأ والعجز عن مسؤوله خوفا من عقاب مرعب. أما حين نصل بهذه التراتبية الى مستوى quot;القيادةquot; فان مجرد مناقشة أفكار أو أحلام القائد بدلا من التأييد المطلق لها كانت ترقى الى الخيانة (يعني الاعدام!) فكان القادة والمسؤولون يؤيدون أي جنون يصدر عن القائد، ويمضون الى تنفيذه رغم علمهم باستحالته، وبالتالي يضطرون الى تدبيج تقارير كاذبة عن مراحل العمل لانجاز ذلك الجنون! حتى جاءت ساعة الحقيقة: دخول الغزاة بغداد. انكشف عندها كل شيء، وزيف كل شيء. صرخت الحقيقة بلا رحمة: أن كل العالم الذي أنشأه صدام، بكل ما يملك من دهاء وقسوة وإرادة حديدية، طوال ربع قرن، كان عالماً وهميا.. لا قوته المادية حقيقية ولا قوته النفسية (سلطة الخوف) حقيقية. وإذ ظل هو يكابر حتى اللحظة الأخيرة ملقيا باللوم على الصهيونية وquot;الغوغاءquot; فالحق أنه وحده الملوم على هذه النتيجة، لأنه ارتضى لنفسه أن يتشرنق في نرجسيته، يصغي الى صدى صوته في أفواه المنافقين والمتملقين والمنتفعين منه، مخرساً أصوات الناصحين المخلصين، مكتفيا بالصورة الزاهية التي تزوده بها أجهزته عن دولة مثالية وشعب يذوب حبا فيه.
إذا كانت هذه الكارثة لم توقض صدام حسين فانها كذلك لم توقض زملاء له في قصر الأوهام ممن يرون بلدانهم quot;تتقدم بهمquot; كما يقول شعار الحزب الوطني الحاكم في مصر، الذي يرأسه زميل آخر من زملاء صدام في قصر الأوهام. ففي الوقت الذي تعاني فيه مصر من جمود التنمية والفساد الشامل والقهر الاجتماعي، يعلن رئيس الوزراء أمام الملأ بأن مصر قد حققت معدل تنمية يتجاوز 7%!! الشعب جائع وضائع ومسحوق وهذا يتحدث عن نمو يقارب نمو الصين. عندما أطلق رئيس الوزراء هذه الكذبة تلفت المصريون الى بعضهم البعض متسائلين: هل يتكلم عن مصر أم عن بلد آخر؟! وجاءت التظاهرات والاضرابات هذه السنة لتحاول إيقاض السادرين في بحبوحة الأوهام. ونموذج الحكم في مصر له خصوصيته من حيث انه لم ينفصل عن الواقع بسبب ثقته (البريئة!) بالطبقة المستفيدة المحيطة به وإنما لأنه هو الذي خلق هذه الطبقة الفاسدة وهو متواطئ معها: يقبض منها حصته ويستلم أفرادها منه المناصب والمنشآت العامة المباعة لهم بسعر التراب. في البال مشهد له رمزيته: عندما انفجرت انتفاضة الجياع المصريين في 18 يناير 1977 كان السادات في استراحته في أسوان يجري لقاء مع صحفية فسألته الأخيرة عن رأيه بالمظاهرات الحاصلة، فسألها بدوره: quot;مظاهرات إيه؟!quot; قبل أن يدخل محافظ أسوان ويخبره بأن المظاهرات تتجه صوب الاستراحة ليهرب الرئيس المؤمن على الفور بطائرة هليكوبتر! وحين نسمع أكاذيب الحزب الوطني الحاكم اليوم وتبريراته المتحذلقة لسياسة تدمير الاقتصاد المصري وسرقة المال العام وسحق الطبقات الفقيرة لا نجده أقل اغتراباً عن الواقع من السادات بل إنه أكثر منه اغترابا، ومع هذا الحراك الجماهيري فقد لا يكون بعيدا ذلك اليوم الذي تحيط فيه المظاهرات بقصر مبارك وحاشيته فيما هم يتساءلون: مظاهرات إيه؟
لم يفرض أحد عالم الأوهام على هؤلاء الحكام والطبقة المحيطة بهم، إنما هو النعيم الذي اختاروه برغبتهم، ويدفعون في النهاية ثمنه غير مأسوف عليهم.
سمير طاهر
التعليقات