بين العقيده والذات

المقابله بين الموت والحياه لاتجد لها مثيلا بين اى من المقابلات والثنائيات الاخرى فى هذا الكون فلا يمكن تعريف الموت الا بكونه انتهاءا للحياه ولا تعرف الحياه الا بكونها فى تقابل مع الموت. لايمكن الخروج من هذه المقابله الا بهذا التداخل المازج بين الطرفين حتى ليبدو ان كلا من الحياه والموت يسكن بعضهما جوف الاخر ويسحب من انفاسه. فلسفيا تعرف الحياه بانها الوقت الذى تستغرقه سيرورة الموت.فالانسان منذ يومه الاول يتناقص عمره متجها الى تلك السيروره. وعلماء الخلايا يذكرون ان الانسان بعد سن معينه تبدأ خلاياه بالموت بشكل لايمكن له ان يعويضه كما ذى قبل فهو حى ولكن سيرورة الموت قد بدأت رحلتها داخله حتى تكتمل بزواله جسديا من هذه الحياه. وقد عبر القران الكريم عن مدى ترابط هاتين الظاهرتين وكانهما وجهين لعملة واحده اجمل تعبير quot;يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحىquot;.

ان مدى حضور الموت فى سياق هذه الحياه تكشفه اعداد الافواج المتزايده من الزوار لمتاحف التاريخ وتماثيل الراحلين وقبور الزائلين. بل ان هناك مدنا تسكنها القبور فكم من ضريح يسكن ارجاء العراق مثلا قبل الاحتلال انه تاريخ الموت يرخى بسدوله على هذه الحياه.لقد ذهب الرئس الفرنسى الراحل ميتران قبل موته وتفشى المرض بين احشائه الى مصر لزيارة معابد وقبور الفراعنه ويطلع عن كثب على رؤيتهم لكنهه ومغزى هذه الحياه وما بعدها بل ان هناك شعوبا باكملها يمتلكها هاجس الموت فى حياتها ويصبح مكونا اساسيا ضمن حقلها المزاجى، فمصارعة الثيران فى اسبانيا مثلا وهى الرياضه الاولى هناكquot; والميتادورquot; مصارع الثيران يعتبر بطلا قوميا فان الموت هو مايضيف عليها طابعها الاحتفالى، فعندما ينخرط المتصارعان فى المعركه يكون الحضور القوى للطرف الثالث وهو الموت فسقوط المصارع مضرجا بدمه امام الثور او سقوط الثور هو اشد المناظر اغناء للحياه لدى ذلك الشعب.

ان من يبحث عن الموت عن طريق المجازفه والمخاطره بحياته يفعل ذلك لانه مغمور بنبض وحب الحياه على هذه القاعده تقدمت تلك الامم والشعوب.لقد كان لوقع هاتين الظاهرتين الطبيعيتين ابلغ الاثر على جميع الثقافات لدى جميع الشعوب ولكن ما يجعلهما اكثر جذوة واشتعالا وبعدا عن المنظور الادبى والفلسفى قوة ارتباطهما بالمعتقد الدينى من عدمه وفهم طبيعة هذا المعتقد ومدى تجذره وانطواءه داخل الانفس مع وجود العامل الخارجى المساعد فا نتقال الفرد من ناقد لسلوكيات المجتمع مثلا الى مسقط لفكرة التكفير عليه والتكفير فى احد ابعاده هو قتل ورمى بالموت مثل هذا الانزياح المفاهيمى يظهر مدى الانتقال الى ثقافة الموت تدريجيا عندما تصلب فهم العقيده واستوى على عوده لايقبل فهما اخر داخل النفس.اما فى المجتمعات التى تعتبر الدين ظاهره اجتماعيه كغيرها من الظواهر الاجتماعيه الاخرى لايمكن الحديث عن ثقافة الموت ولكن يمكن الاحساس بثقافة الحياه والانجاز حيث تبدو المسافه واضحه بين العقيده وبين الذات الانسانيه فالعقيده فى تلك المجتمعات شان شخصى بلا وصايه عليها من اى طرف والذات ضمن ذوات اخرى يموج بها المجتمع من كل ناحيه وصوب.فى حين انه فى ثقافات اخرى ليست ذات اديان سماويه لديها معتقدات من الصرامه والقوه ماللا اديان تشيع فيها بدرجه او باخرى ثقافة الموت فبقر البطن فى بعض دول شرق اسيا انتحارتتحده معايير ثقافيه مثل عدم الانجاز او للفشل وهو يعد وضعا مالوفا ويستمد جذوره من ثقافه سائده.ومع ذلك لا استطيع ان اتخيل ثقافة للموت قائمة بذاتها بعيدا عن الاعتقاد بانها موصلة اوباعثة بشكل او باخر لنوع اخر من الحياه حتى لدى من يدعون بالتيار العبثى او العدمى الذين يرون الحياه عبث ولاطائل وراءها فقرارهم بالرحيل وعيا او دون وعى يعتبر اغناء للحياه حيث وجودهم كان عبئا ثقيلا لايمكن للحياة احتماله. فالمعتقد الدينى بلا شك ايا كان مصدره هو مايضفى على هاتين الظاهرتين تفسيرهما الثقافى التاريخى وهو من يجعل الاولوية لاحدهما على حساب الاخر. ان اولوية الحياه والمحافظة عليها امر فطرى تاتى عليه الاديان والفطره السليمه ولكن هذه الاولويه قد تتعرض للهزات وعدم الاستقرار وبالتالى للانقلاب عليها بحيث تصبح اولوية الموت هى المقدمه كونها الطريق للحياه فمتى يتم ذلك وكيف؟ فى ايام المحن والازمات وضعف الامم وعدم مواكبتها لحركة التاريخ وغياب المرجعيات المدنيه الوسطى وتمسك الافراد بالمرجعيات الاولى من قبيل لايسلم الشرف الرفيع من الاذى حتى يسال على جوانبه الدم، ومن التفسيرات التاريخيه والفهم الخاطى لمفاصد الشرع والعقيده.

فالبعض يرى مثلا فى مقتل الحسين عليه السلام تمجيدا لثقافة الموت حيث واجه بكل شجاعه وبساله قوى الطغيان منفردا بعد ان تخلى عنه مناصروه ويغفل هؤلاء عن حقيقة انه عليه السلام لم يات الا بوعد على مناصرته والوقوف الى جانبه ولم يكن يعرف ان المعركه خاسره والا لما اتى حيث قول الله quot;ولاتلقوا بانفسكم الى التهلكهquot; فالظاهره الاجتماعيه التى تراكمت على هذا الحدث التاريخى الموسف والمتمثله بالذات فى الضرب والشج واسالة الدماءء تمجد لثقافة الموت بوعى او دون وعى فى حين ان الاسلام دين حياه واعمار فى الارض. هناك عامل اخر هام لابد من التنبه اليه لاعادة التوازن بين هاتين الظاهرتين الطبيعيتين ثقافيا وهو التاكيد على ان العقيده ليست هى الذات فالذات الانسانيه مفهوم اشمل بكثير من العقيده والخطاب الانسانى الشامل فى جميع الكتب السماويه واولها القران الكريم quot;يايها الناسquot; فاذا كانت العقيده فى احدها صورها المتزمته ترى الموت طريقا للحياه فان الذات ترى اويجب ان ترى ان وجودها يكتمل بوجود الاخر المقابل والا لنا ان نتصور حياة بلا موت او موتا لاحياة بعده باى شكل من الاشكال وهو مايرفضه المنطق السليم. فحب العقيده والاندماج فيها يجب ان لاينسينا ان لنا ذاتا مفكره يسمو بها الفهم الصحيح والمنطقى للعقائدفقط ولكن لايلغيها او يحولها الى عدم.حتى مفهومى الشهاده او الاستشهاد وضعتهما العقيده ضمن فهم يعلو بالذات الانسانيه ويصنع معنا جديدا للحياه.

عبدالعزيز بن محمد الخاطر
( كاتب قطري )