حين ذهب الرئيس الراحل أنور السادات إلى إسرائيل يمد يد السلام، قال كلمة في غاية الحكمة وعميقة الدلالة، لم يبلغ مداها بعد أغلب السياسيين الشرقيين في عالمنا المعاصر.


قال السادات رحمه الله: (نحن نذهب نستجدي الشرق والغرب من أجل التوصل إلى حل ما مع إسرائيل. هذه هي إسرائيل بجوارنا، لماذا لا نذهب إليها ونتفاهم معها مباشرة من دون تقبيل أيادي الروس والأميركان و...).
بعد أعوام طويلة من تلك الخطوة الشجاعة والعبقرية إنقسم العرب الذين خوّنوا أنور السادات إلى قسمين. قسمٌ ذهب في إثر السادات بعد طول عناء في فهم المغزى الذي استلهم السادات تصوره، ومن ثم مبادرته للسلام، ففاوضوا إسرائيل علناً من دون تردد. بعضهم فتح قنوات سريّة من أجل ما لا يُحمد الحديث فيه.


وقسمٌ آخر مازال ماضياً في غياهب الحلم والمأساة، يعامل الزمان الدائر معاملة ليست أقل من معاملة الأموات له!
فكثيرٌ من الناس مازال يظن أن زوال إسرائيل أمرٌ حتمي، وعليه فإن العرب والمسلمون مدعوون إلى رمي اليهود في البحر!
بالطبع يستشهدون ببطولات وهمية حدثت هنا وهناك، لم تنجز لنا غير المزيد من التعاسة والشقاء، وتلك مسألة أخرى تفيض من سياق الحديث شجناً وهمّا.


إسرائيل اليوم أقوى بكثير من السابق وهي تتقدم وتتطور بمرور الزمان ومعها دول العالم، وتعامل الفلسطينيين (ما عدا أوقات الحرب والصراع المسلح) أفضل من معاملة الدول العربية لهم!


العرب وملياراتهم من الدولارات، ليسوا فقط لا يملكون الأسلحة النووية لمقارعة إسرائيل (تملك أكثر من ثلاث مائة رأس نووي)، بل ويملكون أكثر من مائة مليون أميّ، وفقراً عظيماً على مستوى الخدمات والتنمية، وتخلفاً وشرذمة!

الرئيس الراحل صدام حسين ونظام البعث عزفا باستمرار لحن الصراع مع إسرائيل، وصرفا الكثير من الطاقات في فضاوة هذا المدى البئيس، بدل توظيف الإمكانيات نفسها من أجل تقوية شعبهما العربي المتروك من قافلة الحضارة الحديثة.
والحال فإن صدّاماً، بهذا أو ذاك، إنحدر نحو مهبط الأوهام والخسائر التي قضت عليه، فيما إسرائيل أقوى من أمس، وأكثر علوّاً حين كان صدام حسين بعد على قيد الحياة.


حتى لدى غزوه للكويت لم ينس الرجل في إقحام إسرائيل في المسألة، وتوجيه صواريخ نحو عاصمتها، دفع اثمانها لاحقاً.
العالم أجمع طلب من الرجل الإنسحاب من الكويت، لكنه مضى بعناد وغرور يهمّ بإثبات البطولة والإنتصار في القتال/ الإنتحار!
خسر الرجل وترك ورائه وطناً تمزقه الصراعات والدمار والفقر والتخلف. والسبب بكل بساطة كان غياب العقلانية في عموم الحياة السياسية. فالرئيس صدام، مثل ساسة العراق اليوم، كان يفتقد إلى العقلانية والهدوء في إدارته للسياسة. بالطبع الأسباب والعوامل كثيرة وراء ذلك، وقد تطرقنا في مقالات سابقة إلى جملة وفيرة منها.

تركيا اليوم هي نسخة العراق في الأمس. ساسة الأتراك وورائهم حماس شعبي جنوني عارم، مدجج بأوهام وفضاوة الشعور القومي المتطرف، وعسكرٍ لا يبصر الحياة إلا من فوهة البندقية، يرون الكُرد أقل شأناً بالحياة، فلا ضير إذن في حرق إسطنبول وأنقرة كي لا ينعم الأكراد بالسلام والسعادة، طبقاً للمثل الكُردي في إنتحار الحمار الرمادي (كه ري ديزه) لكي يضر بصاحبه!
أحياناً يمل المرء ويضجر في عبثية قاتلة، تشلّ منها ركبتاه، فاغراً فاه كأنه يستجدي النجاة، إذ يهمّ بإيجاد تفسير معقول لمسار السياسة في هذا الشرق التعيس. ولا يكاد أحدنا يختلف حتى بالقليل في وصف الحركة السياسية في عالمنا المتخلف، بالجنوني والهابط، نظراً لتشابه الأحوال، وتكرار المأساة لدى كلّ ترحال ومآل.


فإخوتنا الأتراك أنعم الله عليهم ببلاد جميلة جداً، قد تكون ضمن أجمل بقاع الأرض. لكن الجمال المذكور شوهته سياسة قبيحة، وعنصرية بغيضة، لم تزل تدب في شرايين المجتمع والدولة، مثل مرض عضال يستعصي على العلاج.
ولا أدري كيف يمكن أن يتفق الجانبان التركي واليوناني، في إتفاقٍ ومصاهرة لكن تركيا التي تتوسل كل سبيل، من أجل الدخول في الإتحاد الأوروبي، تصارع الظل والهواء من أجل إجبار الأكراد قبول وهمها أنهم أتراك، وأن عليهم القبول بالإستكان في الأطر التي ترسمها هي لهم؟!


سوريا التي قارعت جارتها التركية زمناً طويلاً على المياه والحدود ولواء أسكندرونه، أبقت أنقرة خط علاقتها بإسرائيل ساخناً، كردّ مضاعف لعدائها لسياسات تركيا، مما حدا بالأخيرة إلى تشديد العداء وحشد جيوشها وتهديد رأس القيادة السورية مباشرة عام 1998، فرضخت سوريا وأنكست جبينها بذلّ طواه نسيان منوط بالخجل. القيادة السورية غطت على نكستها تلك بفقاعات البطولة والمقاومة أمام إسرائيل في جنوب لبنان، لردّ إعتبار مهدور قبالة شعبها المغلوب على أمره.


اليوم يزور السيد أردوغان دمشق، يبحث عن مخرج للطوق الذي ضربه حزب العمال الكُردستاني، حول رقبة تركيا بإحكام غليظ!
الإستجداء وليد عادة هي إبنة تقليد قديم، لا يملك إرادة تفكيرٍ ثان، أو حلٍ آخر.
وإلا فما بال أنقرة تتوسل العالمين في الخلاص من كارثتها مع الكُرد، لكنها لا تذهب إلى الأكراد أنفسهم، من أجل إيجاد حلٍ يرضي الطرفين؟


ماذا لو فكرت أنقرة مرّة واحدة فقط، أن تبعث وفداً يلبس طقماً مدنياً وربطات عنق، يحمل الأقلام والأوراق، بدل الدبابات والهيليكوبترات، إلى حيث يتجمع الأكراد للمطالبة بحقوقهم؟!
أنظروا إلى معادلة تركيا في صراعها مع حزب العمال. في تسعينيات القرن الماضي وبالرغم من وجود الحزب في بلاد الغرب لكنه كان معزولاً عالمياً، فيما كانت أنقرة تنعم بعضويتها الأطلسية وعلاقاتها مع إسرائيل وأميركا والغرب.
لكن حزب العمال الكُردستاني صبر، وتعامل مع الواقع بعقلانية وصرامة وضاعف قواه.


أنقرة أصرت على رمي الأكراد في بحر العدم، وظلت تعرض عليهم حلّاً واحداً: (تخلوا عن كُرديتكم).
السياسة هذه أصابتها التعرية والإنعزال، حتى شعرت تركيا بخيبات تلو خيبات. حزب العمال الكُردستاني ثبت في ساحته الشرقية، وفاز بالساحة العالمية وحشر تركيا في الزاوية المميتة.


أنقرة عادت إلى الشرق حيث سوريا وإيران، اللتين كانتا تدعمان حزب العمال، لتستجدي هي منهما هذه المرّة من أجل القضاء على الكُردستاني!
أي أن العمال إنطلقوا من الإقليمية نحو العالمية، فيما إنكمشت تركيا من العالمية نحو محلية، هي الأكثر عزلة ونبذاً على الصعيد العالمي.


بالرغم من ذلك تود تركيا نيل العضوية الأوروبية، وتزيد في الوقت نفسه الطين بلّة والتناقضات القائمة تعقيدات أكثر وأزمات أوسع.
كم هو حزين، أن تنشغل تركيا مع سوريا وإيران من أجل القضاء على الأكراد وقمعهم ورفضهم؟!
هذه الدول مليئة بالخيرات والموارد. كان من الممكن البحث عن سبل الإنماء وبناء شبكات الطرق والجسور بينها، وتقديم خدمات التكنولوجيا والرفاه لشعوبها. لكنها منذ أمدٍ بعيد لا تملك سوى أوراق بئيسة في اجتماعاتها الثلاثية، لا علاقة لها بمصالح مجتمعاتنا الحقيقية، منها القضاء على تطلعات الأكراد.


ولكن كيف لأنظمة تذبح شعوبها وتشغلها بالفقر والمذلّة، البحث في سبل تطوير شعوبها؟!
أردوغان رجلٌ طيب (وهو شركسي بالمناسبة وليس تركيّاً بالمعنى القومي). ولو كان هو الوحيد الذي يصدر القرار، لكان بودّه حل القضية الكُردية. لكنه وهو يخرج من القصر يرأس وفد بلاده نحو سوريا أو إيران اللذين كالا لها العدوان بالأمس وكادا عليها، يخرج وهو ممتلئ بذهنية إجتماعية متورمة في الإدمان على الجهل والمرض. يخرج وهو يتفحص الوجوه المتجهمة المحمرّة أعينها على يمينه وشماله، وهي تملي الوصايا والقرارات. وجوه مغبرة من غبار تأريخ نكد، ترهقها قترة العناد والهوس بالإنتحار فخراً. وجوه العساكر المستحكمين بناصية الدولة.


يخرج أردوغان مهموماً محكوماً ثقيلا. عليه أن يمضي في ما مضى الأولون من المنتحرين يقارعون المستحيل!
أليس من المستحيل الطلب من شعبٍ يقدر بحوالي أكثر من أربعين مليون إنسان التخلي عن وجودهم القومي والوطني، لقاء التمتع بفقر وإحباط هوية دولة لا تزود مواطنيها إلا بالقهر والذل والخسران؟!

علي سيريني

[email protected]