وددت لو لم أختلف على الإطلاق مع الرفيق العزيز حسقيل قوجمان بعد أن كنا وحيدين، بحدود ما أعلم، نخوض معركة قبل خمسين عاماً هي من أصعب المعارك، معركة نقاء الماركسية وحماية اللينينية، ليس فقط ضد الكتلة المرتدة والمنحرفة في قيادة حزب لينين وستالين بل وضد الأحزاب الشيوعية في الأطراف كذلك ومنها الأحزاب الشيوعية العربية. كان كلانا بين سدان السلطات الحاكمة من جهة ومطرقة الأحزاب الشيوعية من جهة أخرى، وهي الأحزاب التي شاركت عتاة الإمبريالية في التصفيق الحاد للمرتد المنحرف نيكيتا خروشتشوف. وددت لو لم أختلف معه لكن ما حيلتي وهو يرى أن انحراف خروشتشوف إنما هو حالة فكرية خاصة بخروشتشوف وعصابته خلافاً لما أراه أنا بالمقابل وهو أن إنحراف خروشتشوف وعصابته إنما كان النتيجة الظاهرة لصراع طبقي حاد بين البروليتاريا السوفياتية من جهة والطبقة الوسطى، طبقة البورجوازية الوضيعة، من جهة أخرى، داخل المجتمع السوفياتي فيما بعد الحرب الوطنية. ولعلي أضيف هنا أن انتصار الطبقة الوسطى في ذلك الصراع لم يحسم بصعود خروشتشوف إلى قمة السلطة في الحزب وفي الدولة وهرطقاته في المؤتمرين العشرين والحادي والعشرين للحزب في العامين 56 و 59 على الترتيب، بل كان بإسقاط خروشتشوف نفسه عام 64 بإنقلاب قصر عسكري (palace coup drsquo;etat)، وقد حدث ذلك بعد أن بدأ خروشتشوف يعي سوء ما صنع بفعل الطغمة العسكرية المسيطرة على مفاصل الدولة. من عديد القواعد الذهبية التي اكتشفها ماركس هي قاعدة الصراع الطبقي التي تقول أن التاريخ لا يتحرك على الإطلاق سواء إلى الأمام أم إلى الخلف إلا بفعل الصراع الطبقي. هكذا علمنا ماركس لكن لبالغ الأسف ما زالت الأحزاب quot; الشيوعية quot; تتجاهل ذلك في تفسير انهيار المعسكر الإشتراكي والإتحاد السوفياتي بشكل خاص وهو انعطاف تاريخي حاد ؛ والأسف الأبلغ هو أن يشاركهم الرفيق حسقيل قوجمان مثل هذا التجاهل كما يظهر حتى اليوم!

وبعد أن صار اختلافنا حقيقة واقعة لا مشاحة فيها، حسبت أن يكون الإختلاف محصوراً بيننا، تتم المناقشة فيه عبر البريد الألكتروني. إلا أن الرفيق قوجمان وكعادته في الإخلاص المتناهي لقضيتنا المشتركة إقترح أن تكون المناقشة علنية عبر الصحافة الألكترونية من أجل تعميم الفائدة فيكون الكسب الحقيقي وليس مجرد إقتناع أحدنا بوجهة نظر الآخر. وكبداية طرح علي الرفيق قوجمان ثلاثة أسئلة مفتاحية تثير قضايا محورية في الفكر السياسي المأزوم الرائج وقد فاقم من أزمته الإنهيارات التي أحاقت بالعوالم الثلاثة التي تمايزت بقوة بعد الحرب العالمية الثانية. فقد بدأ الإنهيار في المعسكر الإشتراكي بصعود ممثل الطبقة الوسطى نيكيتا خروشتشوف سدة السلطة بعد رحيل ستالين دون أن يعترف بذلك عامة الشيوعيين حتى اليوم ؛ وبدأ انهيار النظام الرأسمالي الإمبريالي مع اختناقه بأزمته العامة عام 1971 وقد نعاه إعلان رامبوييه في نوفمبر 1975؛ وانهار العالم الثالث، عالم التحرر الوطني، إثر الحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر 1973 حين تأكد أنور السادات عملياً أن الإتحاد السوفياتي لم يعد يشكل القاعدة الصلبة لثورة التحرر الوطني فقفز قفزته الشهيرة أثناء محادثات جنيف إلى حضن الإمبريالية الأمريكية. ما فاقم من أزمة الفكر السياسي الرائج هو أن عامة المراقبين لم يلحظوا ولم يعترفوا بانهيار معسكر الرأسمالية الإمبريالية كما بمعسكر التحرر الوطني أو العالم الثالث وقد جرى انهيارهما دون ضجيج يذكر ؛ كما أن عامة الشيوعيين لم يتعرفوا حتى الساعة، لاستغرابنا الشديد، على أسباب انهيار المعسكر الاشتراكي المدّوي. أما الأسئلة الثلاث فكانت كما يلي..

الأول: ما هي مهمة الجيوش الأميركية البريطانية في العراق خلال السنوات الخمس الماضية؟
الثاني: هل توجد هناك طبقة متوسطة في النظام الرأسمالي وما هو تكوينها؟
الثالث: ما معنى المجتمع الإستهلاكي أو الخدماتي الذي لم يعد رأسمالياً؟

الواقع أنني كتبت كثيراً حول هذه القضايا، لكنني مع ذلك ولأنها ما زالت محل التباس لدى رفيقي وهو الماركسي الضليع، ونظراً لأهميتها الفائقة من بعد، فلسوف أجيب عليها بإيجاز شديد كما في التالي..

( 1 )
مهمة الجيوش الأميركية في العراق

في إعلان رامبوييه نوفمبر 1975 أعلنت الدول الخمس الغنية (G 5) كفالتها لأسعار عملاتها بعد أن كان الدولار الأميركي في العام 1973 قد عاني من انهيار لا إنقاذ منه. وهكذا تم تعويم كفالة عملات هذه الدول الغنية الخمسة فبدل أن تكون كفالة قومية صادرة عن سلطة النقد المعني، كما يشترط القانون الدولي ومعاهدة بريتونوود (Brittonwood) 1946، أصبحت دولية وبلا أي معنى، أي ليست كفالة حقيقية وذات مدلول عملي. وبذلك فك الإرتباط بين الدولار، وهو الكتلة النقدية الأثقل، كسند صرف وبين قيمته الرأسمالية سواء بعينة الذهب أم بعينة البضاعة. مثل هذا الأمر شكل طعنة قاتلة للنظام الرأسمالي من حيث أنه انعكس مباشرة بخلل بنيوي في الدورة الحيوية للإنتاج الرأسمالي (نقد ـ بضاعة ـ نقد) ـ فلا النقد عاد يساوي البضاعة ولا البضاعة عادت تساوي النقد ـ ومكن الإدارات الأميركية المتعاقبة من الإنفاق بلا حساب وذلك من خلال الإستدانة من كل العالم عن طريق بيعه سندات الدولار غير المليئة. كلما قاربت مثل هذه العملية اللصوصية على الانكشاف، وأخذ العالم يشيح بوجهه عن الدولار وتتآكل ثقته فيه إضطرت الولايات المتحدة أن تبحث عن حرب تطيح بدولة نخرها الفساد كيما يستعيد العالم ثقته بالدولار وتتمكن الولايات المتحدة بعد ذلك من الإستدانة أكثر فأكثر من العالم حتى بات حجم مديونية الولايات المتحدة يساوي أربعة أضعاف حجم مجمل إنتاجها القومي وهي نسبة لا مثيل لها في تاريخ الدول السابقة بالإنهيار. لقد استبدلت الولايات المتحدة شعار الدولار(IN GOD WE TRUST) بشعار مختلف ومعاكس هو (IN GUN WE TRUST). حرب أميركا على العراق إنما هي تجسيد لشعار الدولار الجديد على أرض الواقع. أما وصف هذه الحرب بالحرب الإمبريالية فلا يعنى ذلك سوى أن هدف الحرب هو تسويق المنتجات الأميركية في السوق العراقية وتصدير رؤوس الأموال الأميركية إلى العراق وكلا الأمرين بعيدان تماماً عن واقع الأمر فالولايات المتحدة هي اليوم أكبر مستورد للسلع كما لرؤوس الأموال. والقول بنهب ثروات العراق وخاصة النفط فقول يجافي نمط الإنتاج الرأسمالي الإمبريالي بالإضافة إلى أن فاتورة النفط غدت تشكل عبئاً ثقيلاً على ميزان المدفوعات الأميركي، وهذا بالتالي كذب صراح. كان خطأ الإدارة الأميركية في الحرب على العراق هو أنها خططت لإسقاط النظام المهترئ دون إشراك القوى السياسية للشعب العراقي ؛ ولذلك رأينا جيوشها تصل بغداد عبر الصحارى متحاشية دخول المدن كيلا يشترك الشعب في الحرب. ولعل ذلك كان بسبب خشية الولايات المتحدة من طبيعة القوى السياسية المتواجدة فعلاً على الأرض وجميعها ذات منطلقات دينية أو إثنية ولا تشمل على أية قوى ليبرالية ذات وزن. سقط النظام بسهولة لكن بات على القوات الأميركية أن تواجه قوى الإرهاب وفلول النظام وجهاً لوجه في أرض غريبة عليها ودون أن تكون مؤهلة لمثل هذه المواجهة. كما أنِفت القوى السياسية الشعبية من الإشتراك في هكذا مواجهة كيلا توصف بالمتعاونة مع قوى الإحتلال فبقيت معزولة تماماً عن المعركة رغم أنها صاحبة المصلحة الحقيقية والمباشرة في سحق قوى الإرهاب المتأسلم والعصابات الصدامية. الدمار والتقتيل اللذان حلا بالعراق كانا من صناعة الإرهابيين وبعضه من ردود الفعل الأميركية الفجة وعديمة الخبرة. وأخيراً، لا يحق لي أن ألوم غير الماركسيين الذين يتحدثون عن أمريكا الإمبريالية وأنها جاءت لاستعمار العراق ونهب ثرواته! يقال أن أمريكا قد أنفقت وستنفق ثلاث تريليونات من الدولارات في حربها على العراق، والسؤال الذي يتجنبه الجميع هو.. كم سنه تحتاج الولايات المتحدة لأن تستعمر العراق وتنهب كامل ثرواته كي تستعيد مثل هذه الأموال؟!! ـ ثلاثمائة عام على الأرجح ـ وباختصار فقد جاءت أمريكا إلى العراق ليس لسبب إلا لحماية الدولار من الإنهيار الكلي وما يجلبه مباشرة من انهيار شامل للولايات المتحدة، وهذا لا يستهدف العراق مباشرة بشيء إلا بتحريره من عصابات التسلط الغاشمة.

( 2 )
الطبقة الوسطى في النظام الرأسمالي

نمط الإنتاج الرأسمالي هو في نهاية الأمر الإتجار بقوى العمل، بمعنى أن يشتري الرأسمالي من العامل عشر ساعات عمل من يومه ولا يدفع له إلا قيمة ثمانية فقط وقيمة الساعتين الأخريين هي فائض القيمة أو ما يسمى الربح. كل عمليات الإنتاج التي لا تتم بهذه الشروط هي ليست من الإنتاج الرأسمالي. أعمال البنوك مثلاً ليست من الإنتاج الرأسمالي وهي مؤسسات ربوية كما ميزها كارل ماركس في (رأس المال) ولذلك تعتبر عقبة في مجرى الإنتاج الرأسمالي، والأرباح التي يأخذها مالكو البنك ليست من إنتاج موظفي البنك؛ وكذلك هي شركات التأمين ومثلها مختلف المضاربين في البورصة التي تحبس داخل أنشطتها 97.5% من الأموال المعدة للتوظيف في الإنتاج الرأسمالي كما جاء في استقصاء دولي جرى مؤخراً، وهو ما يعني مباشرة أن أعمال البورصة تعمل على محاصرة النظام الرأسمالي وخنقه.


شروط الإنتاج الرأسمالي، وقد بحثت فيها في كتابي (جديد الإقتصاد السياسي) المنشور في موقعي الألكتروني على الرابط أدناه، هي شروط متعددة وكثيرة ليس منها شرط واحد يتوفر في إنتاج الخدمات، سائر الخدمات. وأهم هذه الشروط هو شرط تقسيم العمل. فإنتاج السيارة مثلاً يتم فقط عن طريق الإنتاج المجتمعي (Associated Production) حيث لا يُعرف الفضل في إنتاجها لجهة محددة، المجتمع بأكمله عمل في إنتاجها، وهذا هو نمط الإنتاج الرأسمالي. أما الخدمات فيتم إنتاجها بصورة فردية (Individual Production) ويعود الفضل في إنتاجها لفرد بعينه كما في الخدمات الطبية على سبيل المثال حيث يخدم الطبيب مريضه في عيادته دون مساعدة من أحد. هذا بالإضافة إلى أنه ينتج تلك الخدمة بدون رأسمال وبدون أدوات إنتاج ودون أن يعرض خدمته في السوق ويعود بدل الخدمة لمن أنتجها مباشرة كما أن إنتاجها لا يشمل فائض القيمة. وكذلك يعمل المهندس والمحامي والمعلم والشرطي والعسكري وما إلى ذلك. ما ينتجه هؤلاء يمكن بيعه معزولاً تماماً عن إنتاج الآخرين حيث يتحقق فيه تقسيم العمل بشكل كامل. ليس كمثل الإنتاج الرأسمالي حيث يُلغى تقسيم العمل بشكل كامل أيضاً. شتى منتجي الخدمات هم من الطبقة الوسطى، ينتجون خدمات ويبيعون خدمات وليس ساعات عمل، هم ليسوا بروليتاريا وليسوا رأسماليين. الفلاحون الذين يزرعون أرضهم بأيديهم هم أيضاً من الطبقة الوسطى رغم أنهم ينتجون سلعاً غذائية وليس خدمات، لكنهم يبيعون إنتاجهم لصالحهم. هؤلاء وأولئك هم البورجوازية الوضيعة أو الطبقة الوسطى. ما لا بدّ من الإشارة إليه في هذا السياق هو أن الطبقة الوسطى لا تملك مشروعا تاريخياً لبناء المجتمع، أي مجتمع، كما هو حال الطبقة الرأسمالية أو طبقة البروليتاريا. لذلك استعاضت البورجوازية الوضيعة عن امتلاك المشروع الإجتماعي الإقتصادي التاريخي بفنون الخداع والمناورة وهي أدهى حيلة وأمهر خداعاً وأكثر لؤماً وقساوة من الرأسماليين ؛ وها هي اليوم تقنع العالم بأن المعرفة، التي تدعي كذباً إنتاجها، قد أصبحت العامل الحدي في الإنتاج وليس قوة العمل كما في الإنتاج الرأسمالي، ونجحت تبعاً لذلك في استبدال خدماتها بأضعاف أضعاف قيمتها من السلع من إنتاج البروليتاريا. إنها تقوم اليوم بافتراس البروليتاريا كما الوحوش الضالة.


ثمة مشروعية للتساؤل عن وجود طبقة وسطى في النظام الرأسمالي وذلك لأن الرأسماليين يحرصون باستمرار على الحؤول دون إنتاج الخدمات بصورة واسعة لأن ذلك يثقل على دورة منتوجاتهم البضاعية ومن هنا تحديداً لم يكتسب منتجو الخدمات في النظام الرأسمالي إسم quot; الطبقة quot; (class) بل احتفظوا باسم quot; الشريحة quot; (strata) على الرغم من أن تعريف الطبقة يرتكز كليّاً على تحديد وسيلة الإنتاج. ما نراه اليوم في المجتمعات الإستهلاكية هو أن الذين ينتجون الخدمات قد أشغلوا 70 ـ 80 % من حجم المجتمع في الدول الرأسمالية سابقاً ؛ لقد غدوا طبقة وأي طبقة! ولذلك حقّ علينا ألا نصف مثل هذه المجتمعات الإستهلاكية بالمجتمعات الرأسمالية. إنها حقاً مجتمعات طارئة تفتقد القدرة على البقاء والاستمرار ؛ إنها مجتمعات الطبقة الوسطى.

( 3 )
المجتمع الخدماتي الذي لم يعد رأسمالياً

للنظام الرأسمالي حسنات كثيرة يتوجب عدم إهمالها في غمرة الحماس لتهديمه وإلغائه. يكفي أنه الأم الوحيدة التي تحمل بالشيوعية وتحمل الكثير من خصائصها الوراثية مثل خاصية الإنتاج بالجملة (Mass Production) وتحويل الناس بالجملة إلى بروليتاريا وتأهيلهم للإنتاج المتطور كما في تسريع زيادة ثروات المجتمع بل إن النظام الرأسمالي هو أول نظام كرّس قدسية قوة العمل واعتبارها القيمة الأساس. ولعل إحدى هذه الحسنات هي الاحتفاظ بالطبقة الوسطى طبقة رقيقة وهشّة، محدودة الإنتاج كيلا تثقل كلفة خدماتها دورة الإنتاج الرأسمالي في السوق وتحمله كلفاً إضافية لا تعود بأدنى فائدة على المستهلك. كل ما يحققه النظام الرأسمالي على الأرض هو شروط ضرورية لا غنى عن أي شرط منها كيما يمكن الإنتقال إلى الشيوعية.


لنتفحص بالقياس لهذه الخصائص المعروفة تماماً في نظام الإنتاج الرأسمالي، لنتفحص واقع حال الولايات المتحدة الأميركية اليوم ومدى احتفاظها بذات الخصائص وقد كانت الدولة الرأسمالية الإمبريالية النموذج في نهاية الحقبة الرأسمالية في ستينيات القرن الماضي. تعاني السوق الأميركية منذ السبعينيات من شح متفاقم في السلع الإستهلاكية مما يضطرها لأن تكون سوقاً مفتوحة لواردات بضاعية ضخمه من بلدان شرق آسيا وخاصة الصين ويبلغ العجز في الميزات التجاري للولايات المتحدة أكثر من ملياري دولار يومياً ؛ ومثل هذه الحقيقة وحدها تنفي تماماً تواجد الإقتصاد الرأسمالي في المجتمع الأميركي بصورة رئيسية. وتقول الأرقام في هذا الصدد أن حصة الإنتاج الرأسمالي من مجمل الإنتاج القومي للولايات المتحدة هي فقط 17% مقابل 80% للخدمات ـ ولعل نسبته في الصين الشعبية أعلى من ذلك دون أن يجروء أحد على القول بالصين الرأسمالية! وتبعاً لذلك فقد انكمش حجم الطبقة العاملة بصورة خطيرة لدرجة أن صراعها ضد أعدائها الطبقيين لم يعد محسوساً بالرغم من أنها لم تعد تواجه قوى القمع المكارثية التي واجهتها في الخمسينيات. دعاوى ما يسمى باقتصاد المعرفة التي أخذت تشيع في الفكر السياسي وخاصة من قبل الإقتصاديين الأمريكان وأمثالهم إنما هي تعبير عن امتهان قوى العمل البشري بادعاء أن قوى المعرفة هي الأقوى أثراً في الإنتاج وفي تقدم البشرية. فك الوحدة العضوية بين العمل والمعرفة، بين المعرفة وأدوات الإنتاج، هذا الذي يشيعه هؤلاء المتطفلون على علم الإقتصاد إنما هو إلغاء لأساس الإقتصاد الرأسمالي الذي يقوم أساساً علي تحصيل فائض القيمة من قوى العمل وليس من المعارف مهما ارتقت وتكاثفت متجسدة في أدوات الإنتاج. الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة الأميركية تقارب نسبة 5: 6 من مجموع السكان اليوم في حين أنها لم تكن تتجاوز نسبة 2: 6 في خمسينيات القرن الماضي. إنفلاش الطبقة الوسطى وتورمها بهذا الشكل السرطاني هو ضد طبيعة النظام الرأسمالي التي تميل أساساً إلى تحويل كامل القوى المؤهلة للعمل إلى بروليتاريا وتضغط بالمقابل لمنع الطبقة الوسطى من النمو.


القاعدة الذهبية في العلوم السياسية تقول أن quot; من يُطعِمْ يحكمْ quot;. فعندما كان الإنتاج الرأسمالي البضاعي يشبع احتياجات المجتمع بل ويفيض إلى خارج الحدود كانت الطبقة الرأسمالية تحكم المجتمع سواء في أميركا أم في سابقاتها من الدول الرأسمالية. أما وقد غدا الإنتاج الرأسمالي أعجز من أن يشبع احتياجات المجتمع فيضطر إلى أن يستورد معظم احتياجاته من وراء الحدود، لذلك انتفت القاعدة المادية التي يستند عليها حكم الطبقة الرأسمالية. عندما كانت الولايات المتحدة تصدر البضائع ورؤوس الأموال الضخمة إلى اليابان من أجل إقامة سد منيع في أحد كوريدورات الثورة الشيوعية كانت إذّاك دولة رأسمالية إمبريالية ؛ أما عندما كفت عن ذلك وغدت تستورد إحتياجات شعبها من الصين ومن اليابان فلا يمكن والحالة هذه أن توصف بالدولة الرأسمالية الإمبريالية. الخاصية الأولى التي تحدد الطبيعة الرأسمالية للمجتمع، أي مجتمع، هي فائض الإنتاج ومراكمة رؤوس الأموال دون توقف ؛ كل هذا غدا من التاريخ القديم للدول الرأسمالية سابقاً. ومن الجدير أن يذكر في هذا السياق المؤتمر الذي عقد في لندن في مارس 2000 وشارك فيه عن الولايات المتحدة الرئيس بل كلنتون وعن بريطانيا رئيس الوزراء توني بلير وعن فرنسا رئيس الوزراء ليونيل جوسبان وعن ألمانيا المستشار جيرهارد شرويدر وبعد ثلاثة أيام من المباحثات خرج الرئيس الأميركي بل كلنتون ليعلن.. quot; كنا نتباحث في كيفية إرساء الطريق الثالثة quot; (Third Way) أي الطريق غير الرأسمالية وغير الإشتراكية بذات الوقت ـ لمن يفترض أن كلنتون كان يكذب لا بدّ حالتئذٍ تبيان دواعي الكذب!


قال أحد دهاقنة quot; الدولية الإشتراكية quot; ذو الأنياب الزرقاء وهو الصهيوني شمعون بيريز.. quot; أن الإنسان المتحضر لم يعد بحاجة إلى الخبز أو إلى الحذاء والجاكيت بقدر حاجته إلى الموسيقى والثقافة والرياضة ؛ وما يرمي إليه هذا العدو للإشتراكية هو تقديم الطبقة الوسطى من منتجي الخدمات على منتجي السلع من البروليتاريا. لئن كان ما قال صحيحاً، وهو ليس صحيحاً طالما أن الجائع العريان لا يستمتع بالموسيقى وليس لديه الطاقة ليلعب رياضة، فعلى أمثال بيريز من البورجوازيين الوضعاء ألا ينسوا للحظة واحدة أن من يقع عليهم كامل عبء كلف إنتاج الخدمات في نهاية المطاف هم منتجو السلع أو البروليتاريا. لا يمكن إنتاج أي قدر من الخدمات دون الإستناد أساساً على الإنتاج البضاعي. وفي الأصول الأولى بدأ إنتاج الخدمات ليخدم الإنتاج السلعي واكتسبت الخدمات اسمها من هذا الدور. من ينتج الخدمة ينتجها من حساب منتج السلعة.

وأخيراً أرجو أن أكون قد أجبت على ما أثار الرفيق حسقيل قوجمان من تساؤلات هي في غاية الخطورة في الفكر السياسي المعاصر المأزوم.

فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01