كان الشعب العراقي، كل الشعب العراقي قبل نيسان 2003 يئن تحت حكم دكتاتوري ارعابي فردي لم يشهد له العراق مثيلا فى كل تأريخه الطويل. دخلت القوات الأمريكية بغداد وسقط تمثال الطاغية واختفت المظاهر البعثية أو كادت من العراق، وتنفس الناس الصعداء بازالة ذلك الكابوس الذى جثم على صدورهم قرابة أربعة عقود من الزمن، ساد فيها الجهل على العلم والجهلاء على العلماء، وعدنا نعيش كما كنا فى عهد حكم المغول، يحكمنا طغاة جهلاء تحكموا فينا وبمصائرنا وكأننا أنعام يملكونها، يسوقونها حيث يشاؤون ويذبحونها متى يشاؤون.

من الناس من سموا يوم 9 نيسان 2003 بيوم التحرير، ومنهم من سموه بيوم سقوط بغداد وبداية احتلال واستعمار جديد. فان كل انسان ينظر الى الأمور من زاويته الخاصة، وكثيرا ما نسمى الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية، ولكن الجوهر يبقى على حقيقته مهما اختلف ظاهره.


كانت تحكمنا عائلة (عوجية) لا تتميز عن كثير من العوائل الفقيرة الأمية فى تلك المنطقة، غادرها صدام أحد أبنائها الذى كان يعتاش من سرقة الدجاج، ويؤجر نفسه للعراك لمن يدفع أكثر، متأثرا من معاملة أبيه القاسية له، فشب حاقدا على كل البشر. وصمم على ان يثأر لنفسه ويعوض عما فاته بغض النظر عن الطريقة. غادرالى بغداد التى وصلها مفلسا، وساعده خاله الذى لمس فيه بعض الذكاء ووجد فيه الزوج المناسب فى المستقبل لابنته. خاله ذاك كان ضابطا نكرة فى الجيش ذو سمعة ممرغة بالوحل، يكره الجميع ويكرهه الجميع، فكان خير مدرس لخير تلميذ!.

كان صدام يريد ان يصبح حاكما للعراق، وليس هناك من سبيل الى ذلك الا العنف السياسي، واختار حزب البعث الذى كان ينادى بالقومية والوحدة العربية والاشتراكية، ويتهم الجميع بالخيانة والعمالة. وتدرج بسرعة فى الحزب الذى اختاره لاغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان اختيارا صائبا لقاتل ارتكب أول جريمة قتل وهو ما يزال صبيا. فشلت المؤامرة وفر الى سوريا ومنها الى مصر، وتلقفه الحكام هناك لا حبا به ولكن عداوة لعبد الكريم قاسم. وبقي هناك حتى اتيحت له الفرصة بعد ان نجح زملاؤه فى انقلاب 1963 فعاد الى العراق ليشترك فى حمامات الدم التى خيمت على البلد منذ اليوم الأول لذلك الانقلاب الأسود.


قاد حزب البعث ذلك الانقلاب بمشاركة ما يسمى بالأحزاب القومية، ووجد عبد السلام عارف، الضابط الذى خان رئيسه وصديقه قاسم فى ثورة 1958 وانقلب عليه، وجد الفرصة متاحة أمامه لكي ينقلب على الأصدقاء الجدد البعثيين، ونال ما يريد حيث كان عسكريا ورئيسا للجمهورية، والشعب المرعوب من البعثيين كان مستعدا لقبول كائنا من كان بديلا عنهم. وهرب صدام مرة ثانية الى مصر، ليعود الى بغداد بعد نجاح انقلاب 1968 وعودة البعثيين الى الحكم. فى العودة الثانية كان صدام فى مركز متقدم فى الحزب، يرهبه حتى أصدقاؤه والمقربون اليه لعنفه وغدره. قررصدام ان يبقي أحمد حسن البكر رئيسا شكليا للجمهورية، ويحتفظ بمنصب نائب الرئيس، وأخضع أحمد حسن البكر لمراقبة دقيقة، لدرجة انه دبر (حادثا) لمحمد ابن البكر وقتله خشية من ان ينافسه على الرئاسة فى المستقبل، وفعل الشيء نفسه مع الكثيرين ففارقوا الدنيا (بحوادث) مدبرة.

ولما شعر بأن كل شيء أصبح جاهزا أزاح البكر وعين نفسه رئيسا للجمهورية، وأول عمل قام به هو الغدر بمعظم المتقدمين فى حزب البعث ومن ضمنهم أصدقاء له، فأعدم العشرات منهم بعد محاكمة حزبية هزيلة لم تستغرق أكثر من ثلاث ساعات، فتخلص ممن كان يشك باخلاصه له وأرعب الباقين.

قامت الثورة الايرانية بقيادة الخميني، وكان هناك ود مفقود بين الخميني وصدام الذى طرده من العراق باتفاق مع شاه ايران. وبتشجيع من الأمريكيين، شن صدام هجوما مباغتا على ايران وأرسل الطائرات لتقصف المواقع الحيوية، ظانا انه سينتصر على ايران خلال أيام بسبب اختلال الأمور فيها بعد الثورة. ولكن العكس هو الذى حصل، فقد التف الايرانيون حول قيادتهم التى ما كانت ستستمر طويلا لولا هجوم صدام، وقاوموا بضراوة. خسر الطرفان ما لايقل عن مليونين من الأنفس فى تلك الحرب المجنونة، كان الرابح فيها هم الأمريكيون، لأنهم انتقموا من الايرانيين الذين أهانوا كبريائهم فى مسألة الرهائن، وباعوا السلاح للعراق والبلاد العربية، وفازت اسرائيل بعد تدمير أقوى جيشين فى المنطقة يستطيعان تهديد أمنها.

الغني العاقل لا يشتبك بقتال بنفسه بل يدفع لمن يقاتل عنه، وكذلك فعلت بعض الدول العربية ودفعت المبالغ الطائلة لصدام لكي يحمى (البوابة الشرقية!!). ولما طالبوه باعادة ما دفعوه له، ثارت ثائرته وصلح خطأه بالحرب مع ايران بخطأ أكبرمنه فغزا الكويت وتسبب بمجيء الأمريكان الى المنطقة وضربوا الحصار الاقتصادي على العراق على أمل ان يتنازل صدام عن الحكم، ولم يعرفوا ان الزعماء العرب على مدى التأريخ لم يتنازل أحد منهم عن الحكم الا قسرا وعلى الأكثر يقتل. فبعد ان قصفوا العراق بالطائرات والصواريخ ودمروا بنيته التحتية وقتلوا الآلاف من شعبه رجعوا الى الحدود بانتظار سقوط الدكتاتور بفعل الحصار، ولكن صدام وصحبه لم يتأثروا مطلقا من الحصار بل تأثر الشعب وحده وعانى أشد المعاناة، بينما استمر صدام على الاحتفال بمناسبات ميلاده، وانتصاره على الايرانيين!! وانتصاره على الأمريكيين !! وزاد فى بناء القصورالشامخة، ووزع كوبونات النفط واستفاد منها الجميع عدا العراقيين. ثم قرر اعادة سطوة رؤساء العشائر وجهزهم بالأسلحة الخفيفة والثقيلة، ووهبهم السيارات الغالية الثمن، طمعا فى ان ينصروه اذا ما هاجمه الأمريكان، هكذا مخلفا وراءه مصيبة كبرى تضاف الى المصائب الكثيرة الأخرى التى خلفها للعراقيين.

وعلى رأس قائمة المستفيدين كان عدد كبير من الصحافيين والكتاب العرب الذين طبلوا وزمروا له واحتفلوا معه (بانتصاراته) ولم لا وان صواريخه كانت أول صواريخ عربية تسقط على اسرائيل. كان صدام يقرأ بنهم ما يكتبه هؤلاء الصحافيون عنه من مدح وتمجيد ويصدق ما يقرأ، وينعم عليهم (بكوبونات) النفط والهدايا الثمينة، ومنهم من خصص له رواتب شهرية، بينما كان العراقيون لا يكادوا يجدون خبزا يسدون به رمقهم. وما أن حل عام 2003 حتى بدا واضحا للجميع أن أمريكا جادة بتنحيته عن الحكم بأي طريقة كانت، لتأمين وصول النفط العراقي الى الأسواق، والمحافظة على حكام المنطقة (المعتدلين). أنذروه بمغادرة العراق، فلم يكترث، نصحه بعض زعماء العرب بالمغادرة وعرض عليه بعضهم ان يسكن فى بلدانهم وبحمايته، فلم يوافق. لم يكن هناك شك فى ذهن أي عاقل حتى وان كان جاهلا بالأمور العسكرية، ان حربا تشنها أمريكا على العراق تعنى شيئا واحدا فقط : دمار العراق وقتل أهله. ولع صدام وجنونه بكرسي الحكم منعاه من تحكيم العقل والمنطق، وأخذ يستعد للقتال، وعين أقاربه امراء للوحدات العسكرية التى ستقاتل الأمريكان، وكلهم يفتقر الى ابسط المعلومات العسكرية، فقادوا الجنود الى مذابح لا يتصورها انسان. كان ابنه قصي يوجه القطعات الى الجنوب، وفى اليوم التالى يطلب اليهم العودة الى بغداد او التوجه الى مناطق اخرى وهكذا والطائرات الأمريكية تحصدهم حصدا. وما ان دخل الأمريكيون بغداد، حتى فر القائد (الضرورة) هاربا مع صحبه. وكما يعرف الجميع كيف ان ولديه قتلا فيما بعد، وكيف حوكم وأعدم. كان طامعا وآملا بالعودة الى الحكم الى آخر لحظة من حياته.

والحق يقال، فان صحافيي الكوبونات النفطية ومن كان ينعم صدام عليهم بالهدايا من الكتاب العرب وخاصة من الفلسطينيين والمصريين قد حفظوا له الجميل واستمروا على تمجيده حتى اليوم. ومنذ ان تشكلت أول حكومة عراقية بعد سقوط صدام فقد دأبت معظم الصحف المصرية والكتاب المصريين والفلسطينيين واللبنانيين، على ذم الحكومات العراقية المتعاقبة وكيل التهم الباطلة لها، وتمجد القتلة المجرمين من القاعدة والبعثيين وتسميهم (مقاومة شريفة) وتترحم على (شهدائهم الأبرار)!. أما القتلى من العراقيين البريئين وخاصة النساء والأطفال والشيوخ فهم مجرد (قتلى)، وقام الكثير من المتأسلمين ومرتزقة الدين بشرعنة أعمال الانتحاريين المجرمين، وأصدروا الفتاوى بذلك.

أنا لا ألوم هؤلاء الغرباء الذين انقطعت عنهم أموال العراقيين المنهوبة، بل ألوم فقط البعض من الكتاب العراقيين الذين (حسب علمى واعتقادى) لم يستلموا الا النزر اليسير من صدام، مقارنة بما استلمه غير العراقيين من كل الجنسيات. هؤلاء الكتاب ارتضوا لأنفسهم لسبب ما ان ينضموا لتلك الجوقة، ويعزفوا معهم اللحن النشاز، وبدأنا نسمع منهم نقدا عجيبا غريبا للحكومة خاصة بعد أن طاردت الحكومة اللصوص والقتلة فى البصرة ومحاولتها فى ايقاف أعمال التخريب فى مدينة الثورة والموصل وغيرها من المناطق الساخنة فى البلد المدمر.

أقول لهؤلاء مهلا أيها السادة.. ان النقد البناء أمر مطلوب وضروري كما يعلمون وخاصة فى الدول الديموقراطية، ولكن ان يكون النقد تخريبيا فهذا مما لا يمكن السكوت عليه. صحيح ان الحكومات العراقية منذ نيسان 2003 وحتى اليوم لم تستطع تحقيق كل ما يصبوا اليه شعب العراق المظلوم، ولكن ماذا يمكن ان نتوقع من حكومة لشعب مثل شعب العراق ان تفعل أكثر مما فعلت حتى الآن؟ لم يتوقف المجرمون عن تخريب البنية التحتية للبلد منذ سقوط البعثيين وحتى كتابة هذه السطور. خربوا خطوط وأعمدة الكهرباء ومحطاتها، خربوا آبار النفط والأنابيب الناقلة له، فجروا انابيب ماء الشرب ومحطات التصفية، رموا قنابلهم على المدارس والكليات ودور العلم والمستشفيات، وقتلوا العلماء والأساتذة والأطباء والمدراء وضباط الجيش ومراتبه والشرطة ومراتبها، منعوا سير القطارات وطيران الطائرات، والقائمة تطول وتطول.


واذا ما حدث تمرد او اضطرابات سياسية او طائفية، تبعث الحكومة قطعات من الجيش والشرطة للسيطرة على الموقف، فينظم الكثير من أفرادها الى العصاة والمتمردين ويسلمونهم اسلحتهم ويزودونهم بما يريدون من معلومات.

للأسف الشديد فان ولاء معظم العراقيين هو للطائفة وقيادتها وليس للوطن، فقد بلغ بهم الجهل حدا لا يتصوره أحد، فهم يتقلبون مع تقلب قادتهم، ويوالون الحكومة أو يعادونها حسب توجيه تلك القيادات. فمالذى يمكن توقعه من حكومة ورئيس حكومة أن يفعل او ينجز وهو محاط بكل هذه الفوضى العارمة والاضطرابات والأعمال اللاعقلانية حتى من بعض القادة السياسيين الذين يسمون أنفسهم (معارضين) بينما هم فى حقيقتهم معادين للحكومة ويطمحون الى المناصب السياسية العليا؟ أما مصلحة الوطن فلا تخطر لهم ببال.

أنا لا ادافع عن الحكومة الحالية ولا الحكومات التى سبقتها، ولكن ان نطلب أو نتوقع منها ما يستحيل عمله فى الأحوال الحالية، يدل على قصور فى التفكير او رغبة فى التعكير. ان أخطر مهنة فى العالم اليوم هى قيادة العراق، فلم هذا التكالب على القيادة؟ لم يكن الواحد منا قادرا حتى ان يحلم بمعاداة صدام، واذا ما حلم بذلك يستفيق من حلمه مرعوبا مرتعدا. ومع كل قسوته وجبروته وارعابه والبلايين من الدولارات التى صرفها للحفاظ على كرسي الرئاسة فقد قضى السنين الثلاث الأخيرة من حياته يجرجر بالسلاسل وانتهى الى حبل المشنقة اسوة بمن سبقوه من المجرمين.

و أكرر رجائي من الاخوة الأعزاء الكتاب العراقيين أن يتمهلوا ولا ينجرفوا مع الكتاب المأجورين فيسببوا الضرر الأكبر لبلدهم من حيث لا يشعرون.

عاطف العزي

كندا