الأزمة الأساسية في بلادنا كلّها، هي قضية الدستور، التي تحدد معالم الدولة وعلاقة السلطة بالشعب ومستويات السلطات التي تنبثق من الدستور.
في الواقع لدي إلمام معين بقضايا القانون، ولست متخصصاً في ذلك، وعليه فإن الحديث التفصيلي والموضوعي في ثنايا القانون، ليس من مجالنا وطاقتنا.


كان لا بدّ لقانونيّين وحقوقيّين القيام بتقديم دراسات وبحوث شاملة وعميقة وحيوية، للرأي العام، في ما يخص قضية الدستور في بلادنا. لكن فضلاً عن الفقر البائن في هذا المجال، فإن غياب الوعي الطبقي القانوني بهذا المستوى واضحٌ جداً في عالمنا الشرقي المشلول، الذي يعجز حتى الآن القيام على رجليه.


والغريب أن منطقتنا غنية جداً بتراث قانوني يمتد إلى عمق التأريخ. ففي بلاد ما بين النهرين تأسس أول دستور وقانون على مستوى العالم. تعاليم وقوانين السومريين وشريعة حمورابي مشهورة للعالم. أما الإسلام فقد ترك عالماً غنياً من الدستور والقانون ما يمكن إعتباره أغنى عائلة قانونية من العوائل القانونية العالمية الخمس.


مع هذا تعاني منطقتنا فقراً واضحاً في مضمار الحياة الدستورية والقانونية.
بالطبع هناك أسباب فوقانية تأريخية وسياسية عالمية، في إنقلابات عاصفة وجذرية، أثرت في مناحي العلاقات الأساسية بين مكونات الحياة في منطقتنا.
فالعلاقات بين الشعب والسلطة في مضمار الدين والسياسة، على طرفي التطورات العالمية، وتأثيرات الخارج وهيمنته، خلقت أزمات ذات عمر مديد. لكن كل ذلك يثبت عجزاً كامناً في إرادة تلك الطبقة وجوهرها، ونقصد طبقة القانونيين. والحال أنها لم تقدر حتى الآن من التحول إلى واجهة مهيبة ووجلة أما الشعب والسلطة.

في هذا المقال أتحدث عن إقليم كُردستان، كعيّنة للدراسة، ونموذج للتفكير في هذا المجال نحو دسترة الحياة في بلادنا بقانون عادل.
بالطبع تعد كُردستان بلاداً مُحتلة ومقسمة في آن. وحال كُردستان هي حال البلاد التي مرّت بظروف الإحتلال أو تمرّ بها.
الإستقلال الوطني والقومي شئٌ تدريجي، وذو مستويات مختلفة. وأمر إستقلال الكيانات الإقليمية القومية في العالم الثالث ظل متذبذباً ومتبايناً تبعاً للظروف الدولية والعالمية التي أثرت في سياسات منطقتنا بشكل عام.
العراق إستقل عام 1921، ولبنان عام 1957، والصومال عام 1975 على سبيل المثال. وبين هذه الأعوام حصلت بالتدريج، الكيانات المنبثقة من الإمبراطورية العثمانية، على الإستقلال الذي ظل بدوره رهناً بالنسبية المتصلة بأبعاد كثيرة وأسباب متداخلة.
أمرٌ معروف أن إقليم كُردستان إنبثق من الظروف الدولية الجديدة التي غيّرت الخريطة السياسية بعد عام 1990 في بلورة لا تعود إلى سابق عهدها على الإطلاق.


إقليم كُردستان ظاهرياً يمثل طموحاً قومياً لشعبٍ مقسّم قومياً وسياسياً. وعلاقة الإقليم بالدولة العراقية تمخضت في منحى بدأ يستقر في ثبات يؤشر إلى حال دائمة رهناً بغموض قد يكون مفضلاً لدى اللاعبين الكبار المؤثرين في سياسات منطقتنا.

السلطة في إقليم كُردستان تعاني تخلفاً جوهرياً ثقيلاً. فبعد إنتفاضة شعب كُردستان بُعيد إحتلال الكويت، ولأسباب وظروف معينة، ونتيجة فراغ تأريخي وثقافي وندرة وعي إداري وسياسي لدى المجتمع، وقعت السلطة في يد أحزاب لها باع طويل في الجريمة، في الوقت الذي لم تكن تملك أي تجربة سابقة في الإدارة والسلطة.
بالطبع تحدثتُ وآخرون عن الجرائم الخطيرة في إقليم كُردستان والتي ستؤثر بشدة في مستقبل الأجيال، لذلك فلا يزيد تكرار عرض الصورة أي إفادة في هذا المدى.


المهم أن نعرف مسألتين أساسيتين في هذا الحقل وهما حيويتان لقراءة حركة الواقع، ومحطات المستقبل في إستقرارها عبر مجتمع محذوف من الوجود ومن صناعة الحياة التي يريدها والتي يفترض به ـ المجتمع ـ بناؤها.
المسالة الأولى: ماذا تريد الأحزاب السلطوية في واقع كُردستان؟
المسألة الثانية: كيف يكون مستقبل شعب الإقليم في ظل إنتصار معادلات هذه الأحزاب؟
قبل أن أخوض في جواب السؤالين ومغزى المقال أرجو من القارئ الكريم، المهتم بهذا الموضوع، أن يوظف الهدوء والتفكير الجدّي في المسائل التي أطرحها حتى نقدر جميعاًً إستشفاف أفقٍ مشرق وإجتراح فهمٍ صحيح القوام والأبعاد.

بالنسبة للمسألة الأولى فإن الأحزاب الكُردية، حالها حال الأحزاب والسلطات المجرمة والفاسدة في العالم، تحاول بشتى الطرق الإحتفاظ بالواقع الراهن، وتمديد الحال المفروضة بعوامل داخلية وخارجية.
والسبب واضح في ذلك أنها مستفيدة بشكل مطلق من الواقع الحالي، في ما يتصل بالرفاهية والمتع الشخصية، حتى ولو كان الشعب (مادّة القومية والوطنية!) يعيش في حضيض المأساة.


بالنسبة للمسألة الثانية، لسنا بحاجة إلى الفلسفة لنعرف نوعية مستقبل شعبٍ يعيش في ظل هكذا سلطة.
التخلف، الموت المبكر بسبب الأمراض النفسية والجسدية، إنتشار القلق والإضطرابات النفسية في المجتمع، اليأس، إنخفاض النمو الفردي والجماعي، التراجع في المنافسة الحضارية، إنكسار نفسية الفرد، إنهيار الأمن العام، إنتشار نسبة الجرائم، سقوط الإقتصاد وتقهقره، تفكيك البنيان الإجتماعي في الشبكة القومية والوطنية والتأريخية، إنسداد المستقبل وكوارث أخرى كثيرة ستكون في إنتظار أجيالنا برعبٍ وفزع كبيرين.


إذن أين الحل؟
أطرح هذا السؤال وجديرٌ أن نعرّف واقع إقليم كُردستان على بعض المستويات.
1ـ يعاني إقليم كُردستان الإعتراف الدستوري القانوني من قبل الدول المجاورة له، وإعتراف الدولة العراقية في الوقت الحاضر ليس له محتوى مضمون بسبب عدم الإستقرار السياسي، ونقص الشرعية القانونية للسلطة القائمة اليوم في العراق لأسباب معروفة.
2ـ عدم وجود دستور يحمي حقوق الأفراد والجماعات في كُردستان ضمن مبدأ فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. دستوراً لا يكون هناك أحد يجلس فوقه ولا قوة تهمله إلى حدٍ يشعر المواطن أن البلاد لا تملك دستوراً.
3ـ الأحزاب المنبثقة من قيم وجوهر العشيرة هي التي تحكم كُردستان وفق ميزان القوى التي توزع السلطة السياسية في تخوم مقسِّمة للشعب، في وضع شبيه بأيام القبائل البدائية المتناحرة على العيش ومقتضياته.


4ـ الأحزاب مسلحة وتملك قوة أكبر من كل السلطات. الحكومة والوزارات والمحاكم هي مقرات إضافية للأحزاب في وقعةٍ تلفظ المواطنين خارج ساحة الحيوية، مهزومين منهوكي القوى مثل كائنات حيوانية لا دور لها في الحياة.
5ـ إن من يعارض ويحاول تغيير الواقع يصطدم بمجموعة كينونات صلبة: أـ إنعدام القانون والدستور. ب ـ إرهاب الأحزاب المسلحة والمجرمة. ج ـ عدم التوازن بين الشعب وقوى السلطة الإرهابية.
5ـ مسألة إيجاد بديل سليم في واقع يتعرض إلى الإنهيار بسبب الظلم والفساد الذي يحمل السلطة فوق أكتافه القبيحة والتجاليد الغليظة.

إذن فإن إجراء بديل سياسي حضاري في الوقت الحاضر وفق طرق ديموقراطية وقانونية، يتعذر قيامه.
وفي هذا الواقع وحيث يتمتع أفراد الأحزاب بسلطات مطلقة وتصرفات عشوائية في ثروة الشعب، فليس هناك مصد يمنع هؤلاء المضي في الفساد والظلم ودفع البلاد نحو أتون الإنهيار، في وقت يعاني هؤلاء من تخلف شديد على الصعيد الثقافي ونقص عقلي كبير على مستوى القومية والوطنية ككينونتين موضوعيتين، فضلاً عن تجمّد الضمير والإحساس بالمشترك العام.

إن الحلّ الوحيد كما أشرنا في مقال سابق (نحو محاكمة دولية لمجرمي الحرب في كُردستان) محصور بسبيلٍ وحيد. والسبيل هي إقامة دستور شامل للإقليم. ولكن كيف يمكن القيام بذلك وليس هناك من قوة تحفظ هذا الدستور في قنوات قانونية وسلطات شرعية؟
العالم اليوم تغيّر بعد الثورة التكنلوجية، والتراكم الحضاري الذي أعطى قضايا الإنسان في بلاد الأرض طابعاً عالمياً.
هذه المقاربة معقدة التركيب، وتحتاج إلى عقل كبير وذكاء سياسي في إستثمار الفرص الكامنة في العالم المعاصر.
إن تدويل قضايا الإنسان الكُردي في إقليم كُردستان كجزء من المجتمع الإنساني، يكون عبر المطالبة بتشكيل محكمة دولية لمجرمي الحرب والإختلاس في إقليم كُردستان، عن طريق سلطات عالمية كمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة لاهاي الدولية والإتحاد الأوروبي. إن مسيرة النضال في هذا المضمار تكون بداية تشكيل اللبنة الأولى لدستورٍ لا أحد يقدر على خرقه أو تقويضه، وبالتالي يحمي حقوق الإنسان في إقليم كُردستان.


هذه الخطوة ستتحول إلى كماشة تبحث عن مؤخرة أعناق المجرمين لتسليمهم إلى المحكمة العادلة، وبالتالي تمنع دستورياً وقانونياً أي سلطة جديدة من إرتكاب الجرائم، كل الجرائم. وكذلك فهي تسدّ بعض ديون الشعب الكُردي للأحزاب (الكُردية) التي تحاول إذلاله وخضوعه لإرادتها.


والحمد لله فإن كوكبة راقية من مثقفي كُردستان في المنفى شكّلوا أخيراً منظمة تنوب عملياً الشعب الكُردي المظلوم لدى الجهات الدولية، لرفع الشكاوي والمطالبة بتشكيل محكمة دولية لمجرمي الحرب.
ونأمل أن يحذو إخوتنا المثقفين العرب حذو إخوتهم الكُرد وعدم إضاعة الوقت في غياهب الأفكار والأمنيات المجردة.
حين أسقطت أميركا نظام البعث عام 2003، فتحت في أربيل مركزاً لتلقي الشكاوي من الشعب ضد إجرام الأحزاب الكُردية، فاستلم المكتب في ضاحية (عنكاوه) في يوم واحد ثلاثة آلاف شكوى. من دون شك هنا الآلاف من الشكاوي في جرائم خطيرة ضد الإنسان والقانون ومصالح المجتمع، ولكن من يوصلها وإلى أي مكان صحيح.


المنظمة التي شكلها المثقفون الكُرد تقوم بهذه المهمة بعقلانية وإتقان موضوعي، وستبدأ في القريب العاجل بأعمالها المباركة والسبّاقة في التأريخ الكُردي المعاصر.

علي سيريني