حين اشترط الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679) وجوب تنازل الأفراد عن حرياتهم وحقوقهم السياسية في المجتمعات البدائية لمصلحة قوة ذات سيادة، وهي هنا الدولة أو الحكومة، في مقابل الحصول على السلام والأمن المشترك، فإنه في الوقت نفسه كان يشترط تنازل القوى القبلية والسياسية والعسكرية المتناحرة في المجتمع البدائي عن سطوتها ونفوذها بغرض منع الفوضى والحروب الأهلية وعنف الكل تجاه الكل. وحين تحدث هوبز عن أهمية أن تكون الحكومة ذات سلطة مطلقة لا تنازعها ولا تواجهها جماعة وطنية أخرى في القوة أو النفوذ، فإنه في الحقيقة كان يحذر من فوضى لا سبيل لتجنبها في حال سقطت أو ضعفت سلطة الحكومة أمام أي من الجماعات. لذلك يؤكد هوبز على ضرورة أن تتفوق الحكومة في القوة والنفوذ على كافة الجماعات المحلية المختلفة التي قال عنها هوبز أنها تحكمها الأنانية والتي لا تهتم بمصالح بعضها البعض ولا تتعاون فيما بينها طالما لا يحقق ذلك فائدة لها.


حديث هوبز قبل أربعة قرون عن الطائفية التي تحل محل السلطة والفوضى التي تقوم مكان القانون عندما تضعف الحكومات يكاد يعبر بالتمام عن حال عدد من المجتمعات العربية مثل والعراق ولبنان وفلسطين والصومال. هذه المجتمعات تسرّب منها أمنها وسلامها الاجتماعيين بعدما فقدت حكوماتها الضعيفة سيطرتها على الجماعات المسلحة بها كتنظيم المهدي في العراق وحزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين وجماعة المحاكم الإسلامية في الصومال، وهي الجماعات التي تحارب الشرعية في بلادها لأنها تنفذ أجندات أجنبية تملى عليها أو لأنها تريد تطبيق نظماً دينية متطرفة أو لأنها تسعى للحصول على امتيازات خاصة. ومع التصاعد المتستمر وجود هذه الجماعات المسلحة ضاعت هيبة الدول الأربع بعدما أصبح نفوذ الجماعات يفوق نفوذ الجكومات، وأصبح اهتمام الجماعات بتحقيق أهدافها يتخطى ولاؤهم للدولة. ولذا فقد كان غياب السلام الاجتماعي والأمن القومي والوحدة الوطنية عن المجتمعات العراقية واللبنانية والفلسطينية والصومالية أمراً تلقائياً وحتمياً.


يرتبط السلام الوطني للدول بمدى تخلي الجماعات العرقية والعنصرية والطائفية التي يجمعها وطن واحد عن نزعاتها العرقية وأحلامها العنصرية وطموحاتها الطائفية ومدى ارتباطها بالحلم الوطني الجماعي. هذا الارتباط قد يكون طوعاً كما في النظم الديمقراطية أو إجباراً كما في النظم الدكتاتورية. وإذا كانت سويسرا تعد النموذج الأمثل لتخلي أطراف المجتمع عن أحلامها العنصرية وحلولها الانفرادية طوعاً واختياراً. فإن العراق في فترة حكم صدام حسين يعد النموذج الأقوى لتخلي أطراف المجتمع عن طموحاتها الطائفية إجباراً وإكراهاً.


العراق الذي احتفل قبل أيام قليلة بالذكرى الخامسة لسقوط نظام حكم الطاغية البعثي صدام حسين، الذي قاد العراقيين بالحديد والنار، لم يشهد طوال الحكم الدكتاتوري حروباً أهلية أو نزاعات طائفية، كالتي يشهدها اليوم، بسبب التزام وخضوع الجماعات العراقية، التي تتناحر اليوم، لحكم صدام حسين. وعلى الرغم من كونه حكم لم يعرف العدل ولم يوفر المساواة بين عناصر المجتمع العراقي إلا أن سلطة صدام نجحت في قمع والحد من تأثير جميع القوى الطائفية والعرقية البارزة، فلم تشكل أي من هذه القوى تحدياً حقيقياً للحكم الشمولي لحزب البعث كالتحدي الذي تشكله اليوم للنظام الديمقراطي الوليد الذي جاءت به مرحلة ما بعد صدام حسين.


مثّل النظام الكتاتوري لصدام حسين، على علاته الكثيرة، القوة المهيبة التي تحدث عنها هوبز والتي ارتعدت أمامها فرائص الجماعات العراقية المختلفة وعلى رأسها الجماعات التي تتحدى الحكومة العراقية الحالية كتنظيم المهدي، فكان تخلي هذه الجماعات عن مطامعها العنصرية ونزعاتها الطائفية من أهم النتائج التي أفرزها الخضوع لجبروت نظام صدام. ومن ثم فقد كانت الوحدة الوطنية وغياب الاقتتال الطائفي في فترة حكم صدام حسين على رأس المزايا التي تمتع بها المجتمع العراقي عندئذ بينما يفتقدها اليوم.


لم تكن رؤية توماس هوبز لإحلال السلام والأمن بالمجتمعات الفوضوية عبر الحكومة ذات السلطة المطلقة المدعومة بقوة السلاح بالرؤية المثالية التي تحقق الديمقراطية وترعى الحريات العامة، ولكنها ربما كانت رؤية مناسبة لظروف وأوضاع المجتمعات البدائية الغير ناضجة والغير قادرة على التخلي عن انقساماتها العنصرية والطائفية في القرن السابع عشر. ولم يكن نظام الحكم الدكتاتوري لصدام حسين بالنظام الجيد لقيادة العراق، ولكن التناحر البغيض للجماعات العراقية في فترة ما بعد انهيار نظام صدام حسين دفع الكثيرين إلى الترحم على أيام الدكتاتور الأسبق التي على الرغم وحشيتها وقسوتها إلا أنها حفظت للعراق وحدته وصانت للعراقيين دماء كثيرة أريقت فيما بعد بأيدي عراقية من خلال الاقتتال الطائفي الدائرة منذ خمس سنوات.


مشكلة العراق الراهنة هي مشكلة المجتمعات البدائية والغير ناضجة سياسياً واجتماعياً التي تحكمها النعرات الطائفية والانتماءات القبلية، وهي مشكلة تضرب بجذورها بعمق في العديد من المجتمعات العربية. فبالإضافة إلى لبنان الذي تمزقه الطائفية وفلسطين التي تغتالها طموحاته الخلافات السياسية، والصومال الذي انتشرت به الفوضى وتحول إلى وكر للمجرمين والإرهابيين، هناك السودان الذي تستعر به الحرب الأهلية في دارفور، والجزائر ومصر اللتين يهدد التطرف والإرهاب الوحدة الوطنية لمجتمعيهما، والأردن وسوريا اللذين تسودهما انقسامات وطنية وعنصرية
وطائفية، والبحرين التي تسللت إليها حال عدم استقرار طائفي. المثير أن معظم هذه الدول، ربما باستثناء لبنان، يربطها بعضها البعض قاسم مشترك وهو الحكم الشمولي أو الدكتاتوري الذي ربما يحفظ لمجتمعاتها وحدتها كما حدث في العراق في فترة حكم صدام حسين.


طبقاً لرؤية توماس هوبز التي تؤكد على أن انهيار السلطة الهشة أو الحكومة الضعيفة في المجتمع البدائي أمر حتمي لا مفر منه عندما تختفي هيبة الدولة وتعود للجماعات سطوتها أوعندما تلجأ الميليشيات إلى استخدام أسلحتها في الدفاع الذاتي، فإنه من المؤكد أن مستقبل العديد من المجتمعات العربية الغير ناضجة سيبقى في الامد المنظور مرتبطاً بخيارين سياسيين اثنين من خيارات الدكتاتورية والفوضى والديمقراطية. الخيار الأول الذي يرتبط به مستقبل الدول العربية هو النظم الدكتاتورية السائدة التي رغم مساوئها وشرورها إلا أنها تحكم بقبضة من حديد على زمام الأمور وتمنع الاقتتال الداخلي بين الطوائف. أما الخيار الثاني فهو الفوضى أو الحروب الاهلية الطاحنة التي تندلع عندما تترهل السلطة الشرعية داخل الدول، وهي الحروب تمزق الوحدة الوطنية وتدمر الاقتصاد وتشرد الأبرياء وتنال من الجماعات المسالمة.


إن الأوضاع السياسية والاجتماعية المتردية وغير المستقرة في عدد كبير من الدول العربية لا تنبيء بحدوث تغير إيجابي في الشرق الأوسط في المستقبل القريب،.إذ لا توجد ضمانات حقيقية لعدم تكرار الفوضى العراقية في الجزائر أو مصر أو سوريا، على سبيل المثال، في حال وهنت أنظمة بوتفليقة ومبارك والأسد. وإذا كان التوزيع الديموغرافي الطائفي العراقي يختلف عن نظرائه في هذه الدول، إلا أن عوامل أخرى مشتركة اجتماعية ودينية واقتصادية ونفسية كالقبلية والسلفية والفقر والأمية وغياب الوعي تجمع بين العراق والدول العربية الاخرى وتضع مجتمعات هذه الدول
على نفس الدرجة من الهشاشة والعرضة للاقتتال الداخلي.


ولا يحب أن يغيب عن الأذهان أنه إضافة إلى حزب الله في لبنان، وحركة حماس في فلسطين، وجماعة المحاكم الإسلامية في الصومال، فإن معظم الدول العربية تحوي ميليشيات مدربة ومسلحة كحركة الإخوان المسلمين في مصر والاردن وسوريا والجماعة الإسلامية في الجزائر وحزب النهضة في تونس، وهي الميليشيات التي لا يفصلها عن بدء القتال ضد المجتمعات التي تعيش فيها إلا ضعفها أمام صلابة وجبروت الانظمة الدكتاتورية الحاكمة التي لا تتورع عن التخلص من متحدييها مستخدمة لتحقيق ذلك شتى الطرق المتاحة التي يأتي على رأسها القوانين المعدة تفصيلاً لمواجهة المخاطر التي تحوق بها كقوانين الطواريء.


قد يتساءل البعض عن الخيار الديمقراطي، وإمكانية إحلال النظم الديكتاتورية بنظم ديمقراطية في المجتمعات العربية كما حدث في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا. يبدو الأمل في الحل الديمقراطي ضعيفاً بدرجة تدفع إلى التشائم لأن الديمقراطية عقيدة يجب أن ينشأ ويترعرع عليها كل فرد من نعومة أظافره، وهي مبدأ لا يمكن تطبيقه بقوة السلاح كما كان الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش يعتقد. فضلاً عن ذلك فإنه لا ينبغي إغفال أن تيارات كثيرة تمقت فكرة الديمقراطية في العالم العربي. فالطبقات العربية الحاكمة لا تقبل مطلقاً بالحريات الغير منقوصة،
وإن كانت تضطر أحياناً لاختيار ما يناسبها من مظاهر ديمقراطية، كترتيب انتخابات محدودة على أن يتم تزوير نتائجها، للادعاء أمام العالم بديمقراطية أنظمتهم. ولا ينبغي هنا إغفال الكثير من الجماعات المؤثرة التي تنتشر في معظم بلدان العالم العربي، والتي ترفض الديمقراطية وتتخذ منها عدواً للمجتمع والدين والخصوصية الثقافية.


لذا فإن مستقبل الديمقراطية في العالم العربي بمختلف مظاهرها التي تشمل الحريات العامة والعدل والمساواة يظل مرهوناً بانتقال المجتمعات العربية من البدائية إلى الحضارة ومن الانغلاق إلى الانفتاح، ومن السلفية إلى التقدمية ومن التخلف إلى الرقي، وهو انتقال يستغرق تحقيقه أجيالاً.

جوزيف بشارة
[email protected]