التاريخ لا يرحم المهزومين و لا المتخاذلين، و الفرص التاريخية تمر مر السحاب، و إذا كانت هنالك نقاط وفواصل تاريخية في حياة الشعوب تستحق أن يتوقف عندها التاريخ ضمن صفحاته الطويلة و الموحشة و الحافلة بكل النجاحات و الإخفاقات و الخيبات فإن يوم التاسع من نيسان /إبريل لعام 2003 يحتل الصدارة بإعتباره يوم الأيام الذي لا يمكن أن يتكرر بأحداثه و مفاجآته و تجلياته و نتائجه التاريخية التي رسمت الحدود الفاصلة لآفاق عصر دولي و إقليمي جديد، كان يوم الخميس العاصف أكبر من عاصفة تاريخية حركت السواكن و مستنقعات الفكر و السياسة في الشرق القديم الذي ينام على بحار الخرافات و الأساطير و يحلم بالبطل الأسطوري و بالمنقذ المنتظر القادم عبر غبار العصور ليقود شعوب الشرق لقيادة العالم في تصورات سوريالية إختلطت فيها الأسطورة بالمعتقد الديني المتوارث بالواقع البائس المعاش، في ذلك اليوم الخالد في التاريخ العراقي تحديدا إنهارت تماثيل و أنصاب الفاشية العربية المتعفنة التي ظلت لأكثر من أربعة عقود طويلة و دموية و قاسية تخدع الجماهير و تسرق الأوطان و توسع دائرة الموت و تنتج الهزائم الثقيلة على المستويين القطري و القومي و تتلفع بالشعارات الرومانسية الفاقدة لمصداقيتها، أربعة عقود و العراق ينهب و يستنزف و يخوض الحروب الإقليمية نيابة عن الدول الكواسر بينما نظامه الفاشي يعيش إنفصاما حادا في الشخصية و الرؤى بين الشعارات القومية الكاذبة التي يصدرها عبر إعلامه الفوضوي المعتمد على الرشوة القومية لقلاع الفكر و الصحافة في العالم العربي و بين الواقع البائس المر الذي كان يعيشه المواطن العراقي وهو ينتقل من مرحلة فاشية سوداء لمرحلة أشد فاشية و سوادا بينما إقتصاده تحول لحقل تجارب للنظريات الإشتراكية التجويعية الفاشلة ثم لرأسمالية الدولة المفلسة الظالمة ثم تحول الوطن بأسره لمزرعة للرئيس ( الضرورة ) و لبطانته و لعائلته و للأقربين من اهل بيته، كان الوطن يذوي و الشعب يسحق و النظام يطالب الشعب بالصبر للعبور لمرحلة النصر كما كان يقول؟

نعم جاء الإحتلال الأمريكي ليحسم حالة مريضة ظلت متأرجحة بين الحياة و الموت، وجاء المارينز الأمريكي من على بعد آلاف الكيلومترات و ملايين السنوات الضوئية من الفروق الحضارية ليطلق رصاصة الرحمة على النظام الذي رعته الولايات المتحدة و السياسة الأمريكية ذاتها من المهد إلى اللحد، فالنظام البعثي البائد في العراق وهذه حقيقة يعرفها البعثيون قبل غيرهم في العراق كان غرسة أمريكية و غربية في التربة العراقية رغم كل الصورة الإعلامية المضادة لذلك، و كان وجوده قد جاء في مرحلة دولية و إقليمية كانت ترتيباتها تتطلب وجود أنظمة على تلك الشاكلة و بتلك الهوية القومية المنتحلة و المزيفة، فلعبة الأمم حافلة بالأسرار و الألغاز و ألعاب اللا معقول السياسية، وهي لعبة دموية شرسة تتشابه و عالم المافيا، فالعراب الدولي الأكبر و مصالحه كانت تتطلب وجود نظام كالنظام العراقي الذي بلغ أوسع مدى في الإجهاز على العراق و شعبه و تدمير نفسية الشعب العراقي و عبر الفشل الواضح و المأساوي في بناء الهوية الوطنية الجامعة للشعب العراقي و التي تسمو على العصبيات و الإثنيات و الطوائف، لقد جاء البعث العراقي بشعار تدليسي مخادع عنوانه ( لا طائفية و لا عشائرية في عراق البعث..)!! فإذا بالنتيجة النهائية و الميدانية مخالفة بالكامل لذلك الشعار فلقد تمزق العراق عرقيا و طائفيا منذ زمن طويل سابق لسنوات الإحتلال بل أن النظام البائد قد هيأ التربة و مهد الأرضية بشكل كامل لحالة التمزق الرهيبة التي يعيشها العراق الحالي من سيادة للقيم الطائفية المريضة و من إرتفاع للروح العشائرية البدائية و من هيمنة لنزعات الثأر الدموية المتوحشة التي تجهز اليوم على ما تبقى من العراق، و للأسف فإن البعثيين أو يقاياهم في العراق لا يمتلكون فضيلة الإعتراف بالذنب و الخطيئة!

و لا يمارسون أبدا شعيرة النقد الذاتي التي يدعون لها في أدبياتهم و نشراتهم الحزبية بل أصروا و مازالوا على ركوب الرأس و رفضوا نقد دورهم ودور حزبهم في تدمير العراق، فالمسؤول الأول عن غزو و إحتلال و تدمير العراق هو النظام البائد ذاته و الحزب الذي كان يحكم بإسمه، لم ينجح البعثيون لا في حروبهم و غزواتهم و لا في سلامهم فعندما يخمد خطر الحروب الخارجية يتقاتلون فيما بينهم و تتم تصفية الرفاق بسلاح الرفاق ذاتهم و التجربة البعثية الدموية المرة في العراق لا تحتاج لإعادة تأريخ فدمويتهم المفرطة قد شوهت النفسية العراقية بالكامل، و بعيدا عن الإغراق في إعادة تقويم التجربة البعثية لا أعادها الله، فإن سقوط النظام ما كان يمكن أن يتم لولا القوة العسكرية المفرطة التي إستعملتها الولايات المتحدة دون ضوابط و لا حدود لقد هدم الأميركانأسوار و قلاع و قصور و متاريس النظام الذين ساهموا هم و حلفائهم الأوروبيين في بنائه و لكنهم فشلوا فشلا ذريعا في أعادة لصق أجزاء التركيبة العراقية المهشمة، فالديمقراطية لا تفرضها الدبابات و لا الصواريخ و لا الطائرات و لا شركات الحماية الأمنية بكل فرقها الإرتزاقية، بل تؤكدها و تحميها و ترسخها عمليات التنمية و البناء بناء الإنسان قبل العمران و تلك مهمة أبعد ما تكون عن مهام العسكر، و لكن الظاهرة التاريخية التي لا يمكن أن ينساها التاريخ هي صورة ذلك ( النعال ) العراقي ( نعال أبو تحسين ) الذي أشهره ذلك العراقي المعذب بكل سنوات المعاناة و الصبر لينهال به على صورة الطاغية الذي أراد الإنتصار على أكبر قوة عسكرية في التاريخ البشري ببندقية ( الفلاح منقاش )!! وهي الكذبة الكبرى التي أطلقها وزير الأكاذيب البائد محمد سعيد الصحاف ورددها خلفه أهل الإرتزاق في الإعلام العربي البائس، نعم أن العراق اليوم يمر بأتعس أيامه و مستقبله على كف عفريت و لكن علينا أن لا نغفل أو نتجاهل دور النظام السابق فيما حصل ثم الدور الأمريكي الذي لم يكن بالمستوى المطلوب وخذل قوى الحرية لصالح القوى الطائفية و المتخلفة التي فرضت ظلاميتها على العالمين ليدفع العراق و شعبه الثمن القاسي و لا يزال، ومع ذلك يظل ( نعال أبو تحسين ) هو العنوان الأكبر ليوم سقوط الفاشية البعثية في العراق. رغم إنهيار و تلاشي أحلام الحرية الأمريكية التي حلم الأحرار بفيئها!! و لكن للواقع أحكامه و ضروراته.. و مآسيه!!.

داود البصري

[email protected]