في الذكرى الخامسة لسقوط الطاغية: حتى لا نقطع الغصن الذي نقف عليه
لا يمكن لأحد التنكر لحقيقة أن 9 نيسان 2003 أضحى بداية لتأسيس نظام يتميز فعلياً بتعددية المؤسسات الماسكة بالسلطة (أي عدم احتكارها من قبل جهة واحدة) وقيام هذه المؤسسات على أساس الانتخاب أو الاختيار الحر وباستقلال القضاء وباحترام الحريات مثل حرية الرأي والتعبير، حرية الصحافة والاعلام، حرية التنظيم الحزبي والنقابي. هذا الوضع الذي قد يسهل كتابته في سطور معدودة يشكل في حقيقته انقلاباً تاريخياً هائلاً في حياة العراقيين، إذ يحصل ذلك لأول مرة في بلد ذاق الأمرين من الاستبداد العثماني خلال القرون الماضية ومن تسلط العسكر وفساد الحكام في القرن العشرين ولا سيما سنوات الاستبداد الصدامي الذي أحال بحروبه وسياساته المدمرة هذا البلد الغني وشعبه الكريم الى نموذج للبؤس والانحطاط في مطلع القرن الواحد والعشرين.
ان هذه الحقيقة الكبرى تستلزم الملاحظات التالية
- الحدث التاريخي يعني سنوات من المعاناة: إذ لا يمكن تصور حدوث تأسيس لنظام يشكل قطيعة كاملة مع الماضي البغيض دون المرور بسنوات من المعاناة. وتتناسب درجة هذه المعاناة طردياً مع عمق التغيرات الجارية التي تقف وراءها فئات عديدة وجماهير تؤمن بضرورتها. وفي المقابل، تقف ضدها فئات ترفضها مستندة الى المصالح والامتيازات التي تمتعت بها وتسندها أيضاً قوة العادات وترسخ الأفكار والممارسات السابقة في النفوس أي ما يسمى بشكل مجمل الثقافة السائدة. ومعروف أن الثقافة تتميز بقوة مقاومتها للتغيير. وفي حالة العراق، هناك أيضاً دول الجوار، حيث يقف أغلبها ضد هذه التجربة لتهديدها لهم وبعضهم تمادى الى حد المساهمة في وصول الارهابيين وفي تسليحهم.
- الرهان الكبير: تفتح التطورات الحالية الباب أمام تكريس البناء الديمقراطي للدولة العراقية وانعتاق العراقيين وازدهار حياتهم. ولكن في حالة فشل التجربة فسيُفتح الباب أمام استبداد جديد لفئة سياسية أو دينية أو مناطقية تأتي الى الحكم نظرياً أما عن طريق الحرب الأهلية أو عن طريق الانقلابات العسكرية أو اجتياح قوة خارجية لتفرض هيمنتها على بقية أفراد المجتمع بالحديد والنار من جهة وبالتجهيل والتخريف من جهة أخرى. وسنعود كما كنا نفطر بالشعارات ونتغذى بالوعود وننام على الآهات والآلام، مع الحسرات على ما فوتناه من فرصة تاريخية لتأسيس غد أفضل.
الوجود الأمريكي، بين العداوة والعرفان بالجميل
لا يخفى على أحد طبيعة السياسة الأمريكية وكونها وراء صعود صدام التكريتي وتسلطه على العراق ثم اندفاعه في الحرب على إيران. ورغم ذلك فهناك في العراق من لا يدينها بل ويريد التعاون معها ولا يمكن لأحد أن يفرض موقف المعاداة والقطيعة على الآخرين، انما تدير الحكومة الشرعية سياسة العراق الخارجية ومنها ملف العلاقة بالولايات المتحدة الأمريكية حسب برنامجها وما تراه مناسباً بعد المرور بقنوات المشاورات والنقد والتمحيص التي ذكرناها. من جهة أخرى، لا يمكن لأحد إنكار أن الولايات المتحدة هي التي أسقطت النظام الدموي وأتاحت للشعب العراقي المثخن بالجراح بمباشرة استعادته لصحته ولو تدريجياً بمساعدة قياداته ومرجعياته. وأذكر بالآية الكريمة (ولا تبخَسوا الناس أشياءهم ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين) الأعراف 85، وفي نفس المعنى هود 85. ويمكن لأي جماعة أن تستنكر السياسة الأمريكية ولكن لكل ما ذكرناه من حقائق فان 9 نيسان ليس هو اليوم المناسب في العراق. وبالنسبة لقادة أوربا، فرغم معرفتهم الواضحة بأن مصالح أمريكا هي التي دفعتها الى توجيه الضربة القاضية الى النظام الهتلري، أيام الحرب العالمية الثانية، فانهم لا زالوا يُحيون كل سنة ذكرى إنزال النورماندي ويقفون حداداً في مقبرة المنطقة الخاصة بالجنود الأمريكيين ويدلون بالخطابات التي تنم عن عرفانهم بالجميل إزاء الولايات المتحدة، ويتساوى في ذلك القادة المناوئون للنفوذ الأمريكي، مثل الديغوليين الفرنسيين، مع غيرهم.
دولة القانون، الغصن الذي نقف عليه
إذا كانت الدمقرطة كعملية تأسيسية للنظام ديمقراطي تستغرق سنوات طويلة من المعاناة كما بينا، فان دولة القانون هي اللازمة الضرورية لترسيخ الديمقراطية ويتوقف عليها مصير العملية السياسية برمتها. وتعني دولة القانون باختصار انطباق القانون مبدئياً على الجميع بدون استثناء إضافة الى وجود ما يسمى بالمالية العامة وما تعنيه من حماية قانونية للثروة الوطنية لتأمين استفادة المجتمع منها. وكما الديمقراطية، لا تؤسس دولة القانون بمجرد تبني الدستور وسن القوانين بل تدريجياً، أي بتقوية الأسس (القانونية) من خلال الممارسة وما يصاحبها من تطوير بفضل النقد البناء عبر قنوات البرلمان والصحافة الحرة وحرية الاجتماعات والتظاهرات السلمية (المادة 38 من الدستور العراقي) المجازة من قبل السلطة التنفيذية كونها المكلفة بالسهر على النظام العام وعلى تأمين حماية المتظاهرين. ولذلك فان القضاء على المسلحين يأتي ضمن عملية التأسيس هذه، بل أن الحكومة تأخرت في وضع حد للعصابات المسلحة ولتجاوزات المسلحين على الناس الآمنين في مناطق مختلفة وصار الكثير من الناس يؤمنون بضرورة الاحتماء بهم وإلا حاقت بهم الأخطار. أما الميليشيات، فمهما حسنت النوايا من ورائها، فهي مصدر تغذية لهذه الحالة المأساوية والدليل على ذلك هو قرار السيد مقتدى الصدر بتجميد جيش المهدي لستة أشهر تم تجديد التجميد لأنه اطلع على اختراق جيش المهدي من قبل عناصر لا تمت لأهدافه بصلة ومعنى ذلك أن ما يسمى بالطابع العقائدي لم يمنع هذا الاختراق.
والحكومة ملزمة بحل الميلشيات لأنها نقيض دولة القانون، على أن لا تميز بين مليشيا وأخرى حتى تقتنع كل جماعة بأنها غير مستهدفة لوحدها وأن الجميع يخضعون لنفس القانون وأن تقوية الحكومة لا تتعلق بشخص السيد المالكي بل بدولة القانون وأن جهوده الحالية تمهد الطريق لمن يأتي بعده من رؤساء الوزارات فالدولة هي الباقية وكونها دولة القانون التي نتوق لها جميعاً يجعلها ضامنة لاستقرار العراق وسعادة شعبه. وهكذا تشكل صورة الغصن الذي نقف عليه جميعاً تصويراً واقعياً للحالة الراهنة فكلنا في وضع واحد يتميز بدقة الوضع ورقة الأرضية التي نقف عليها، لما ذكرناه من مقدمات، ويتميز وضعنا كذلك بهول ما يمكن أن نقع فيه إن تسببنا في انقطاع الغصن الذي نقف عليه جميعاً. وأخيراً، فلنتذكر الحديث الشريف المعروف وفيه أن قوماً ركبوا سفينة وتقاسموا أمكنتهم فأراد أحدهم أن يُجري ثقباً في مكانه بحجة أنه صاحب المكان، ثم سألهم رسول الله (ص) هل يمنعوه، أم يدعوه فتغرق السفينة؟ فأجابوا وببداهة واضحة بل يمنعوه. وفي ذلك حكمة واضحة لكل العراقيين، بأنهم ومهما اختلفت مواقعهم، يؤدون واجباً تضامنياً في حماية وترسيخ مسيرة العراق الجديد.
د. محمد سعيد الشكرجي
باحث أكاديمي
التعليقات