بسبب تراكم معانات أليمة لفترات طويلة في كُردستان، مالت أحاسيس الناس نحو اليأس. فالناس خبروا أنظمة كثيرة انتهت كلّها إلى نتيجة مشتركة وهي التعامل مع الشعب بمرتبة البهائم. لذلك فإن القتل والتعذيب والتشريد والظلم في شتى الصور كنّ دستوراً يومياً في جريانات الحياة. هذه الحال ليست حصراً بكُردستان.


منطقة الشرق في العموم مثقلة بتراكم مُحبِط، يدفع الجمع العام نحو أحضان اليأس والنعاس، لدى إثارة الأفكار والحلول لمعضلات وأزمات وكوارث أوطاننا وشعوبها. والسبب أن الناس ملّت من هذا وذاك، في الوقت الذي تطبل الأحزاب والجماعات كلّها للشعارات الرنانة واللماعة.
لكن الأكراد حصدوا من المرارات أكثر من غيرهم لإعتبارات عديدة، تطرقنا إليها في مقالات كثيرة.


بالرغم من الإنقلابات العسكرية، تعد تركيا الدولة الدستورية الوحيدة، وبمرتبة ثانية إيران، في منطقتنا المتخلفة حتى النخاع.
ولكن تركيا بسبب غباء قادتها الشديد، فوتت فرصة الريادة على نفسها، لمنافسة الدول حضارياً، فراحت تشغل نفسها بالترهات من الأمور كإقصاء الأكراد ومحاربتهم، ومن ثم تحويلهم إلى سدود أمام نفسها في طريق الصيرورة نحو بلد نموذجي وراق على الصعيد العالمي.
إن عدم كون دولنا مؤسسات دستورية، جعل من كينونات الدولة، الحكومة، الحياة السياسية، تنظيم المجتمع، والإقتصاد الوطني وما إلى ذلك أضحوكة بيد الإستبداد السياسي المتفاعل مع مجتمع يائس ومترهل القوى، وطبقات المثقفين البائسة والخانعة بين هذين المستويين: طبقات مثقفة واقعة بباب المسئولين تستجدي العيش تحت جناح الذل.


إن الدستور يتأسس على مجموعة أبعاد متداخلة، منها الدين، التقاليد، التأريخ، الإجماع العام غير المضاد للبنى والمفاهيم العامة لحياة الأفراد والمجتمع وكذلك مسائل أخرى.
الدستور يحمل في أحشائه القوة القانونية التي لن تتغير بتغيّر الأنظمة السياسية، ولن تتهاوى أمام سطوة أفراد معينين وجماعات معينة مهما كانت مكانتها ونفوذها.

في بلادنا، وتحديداً في كُردستان ليس للدستور وجود.

عدم وجود الدستور حوّل الحكومة، القانون، الإقتصاد وأغلب المجالات الحيوية للمجتمع إلى أضحوكة وتسلية للجماعات والفئات التي تتخذ من الوطن/الشعب مطية لشهواتها ونزواتها، التي إن لاقت الصد والرفض، فإنها أي الجماعات والفئات تلك، تستغل وتستعمل إمكانيات الدولة وطاقاتها لمحاربة وإفناء المعارضة.

في كُردستان ليس للدستور وجود. لذلك فليس للبرلمان وجود، ولا الحكومة موجودة. ما يقوم على الأرض غير ذلك. إنها سلطة إستبدادية قبلية فردية منحطة ومجرمة، تريد أن تتزين بديكور فارغ وباهت مثل البرلمان المزيف والوزارات والألقاب المزورة ونحوها.
وعليه فلا أحد يقدر على محاسبة هذا المسئول أو ذاك، لجريمة أو فعلة شنيعة أو حتى إستجواب رسمي معقول، لمعرفة مديات العمل السياسي والوظيفي الحكومي.


والسبب لأن (البرلمان وهو بمثابة صندوق خشبي يحتوي على دُمى) لم يقدر إلى اليوم من محاسبة أحد أفراد السلطة أو الحكومة، فكيف بالمؤسسات المهنية التي تسترزق من النزر اليسير المخصص لها لقاء السكوت.
القضاء غائب غياباً كاملاً. فليس للقضاء صلاحية أو سلطة في كُردستان. لذلك فإن الحديث عن نموذجية (التجربة الديموقراطية في إقليم كُردستان) على مستوى الشرق مجرد نكتة مضحكة.


هناك مسئولون في أعلى المستويات داخل الحزبين الكُرديين، وداخل هرم سلطة الحكومة غير الشرعية القائمة اليوم، يختلسون الأموال العامة ويصرفونها في قنوات فردية، منها الشهوات الفاضحة والدعارة وما إلى ذلك. ولقد تواترت أسرار الشناعات حتى أصبحت بمرتبة المشهود من الملأ الأرضي.


أما جمع الثروة وحيازة الأملاك الكبيرة، والقصور الفخمة، والمتاجر والأبنية وغيرها فلسن بخاف على أحدٍ من الأكراد.
هذه الحال قائمة على حساب إقصاء الشعب من الحياة العامة. الخدمات ممنوعة من الصرف. الفرص غير متوفرة وغير متكافئة. الأطفال محرومون من حقوقهم ورعايتهم. الفرص والخدمات غير متوفرة للشباب. وفي العموم يعاني شعب إقليم كُردستان نوعاً من الجحيم. طبعاً لا ندخل في سياق الحديث التفصيلي وجرد كل نواحي البؤس التي تحيط براهن الأكراد لأن ذلك يطول، ونحن تحدثنا بكفاية مفيدة حول ذلك سابقاً.
ولو كان هناك الحد الأدنى من الحياة مصوناً لقطاعات الشعب، لكان يجوز ـ ربما ـ الحديث عن المساومة والصبر، لإستشفاف مدى أرحب في عملية الأخذ والعطاء بين السلطة والشعب.


ولكن فضلاً عن ذلك، أي إنعدام الحد الأدنى من حقوق الشعب وحياته، فإن هؤلاء المسئولين متورطون في جرائم محرمة وفق القانون الدولي، ووفق مواثيق حقوق الإنسان ومنظمة الأمم المتحدة.


في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تسبب هؤلاء في مقتل عدد ضخم من شباب الأكراد في الحروب التي سمّوها بـ (الإقتتال الأخوي!). فضلاً عن سحب قوات نظامية لدول إقليمية إلى داخل أراضي الآخرين، ومساعدتها على إجتياز حدود دولية، مما سبب كوارث بشرية رهيبة، كالإنتقام من قبل سلطة ديكتاتورية متوحشة، التي ذهبت تصب جام غضبها على المدنيين العزل في مناطق كُردستان.

بالطبع نال النظام السابق جزائه، في سقوط أعقبته محاكمة على خلفية جرائم كثيرة.
لكن هناك آخرون لم تقم لهم محاكمة بعد، بل ويحكمون اليوم في سلطة ديكتاتورية غاشمة.
في تسعينيات القرن الماضي قام هؤلاء المسئولون بنهب ثروة كُردستان.

أملاك الشعب الكُردي سلّمت لدول إقليمية عبر صفقة تهريب دولية محرّمة. وفي خلال ذلك قام أمراء التهريب والجريمة، باشعال حرب داخلية راح ضحيتها الألوف من المدنيين، وتم تخريب الممتلكات العامة ونهب ثروات الشعب.
وبما أن السلطات كانت قائمة وفق ميزان مراكز القوى: الميليشيات والأحزاب والفئات المسلحة، فقد حدثت إعدامات جماعية من دون محاكمة، وقتل الأسرى، وتعذيب المساجين السياسيين بأبشع طريقة. هذه المسائل مسجلة بوثائق كثيرة لدى جهات دولية رسمية.
وفوق ذلك كلّه بقي هؤلاء في سدة الحكم تحت شعارات: الديموقراطية والقومية وغيرها، على خطى مجرمين من أمثال ميلوسوفيتش و صدام والخ.
اليوم ليس في طاقة الأكراد إقامة محكمة شرعية، لهؤلاء المتورطين في جرائم بحق العامة. لذلك فإن وضع الأكراد شبيه بوضع البوسنيين، مع فارق أن البوسنيين يختلفون قومياً مع جلّادهم ميلوسوفيتش وهو صربي، فيما ينتمي الجلّادون إلى القومية الكُردية، التي ارتكبوا ضدها جرائم قانونية خطيرة. لا شك هناك مجرمون يختلفون مع الأكراد قوميّاً مثل قادة البعث وآخرين. لكن قادة البعث اليوم يواجهون محاكم جنائية في قضايا مختلفة، وهم في طريقهم نحو الزوال النهائي.


إن السبيل الوحيد أمام الأكراد في الوقت الحاضر، للخلاص من هذا البؤس والشقاء، هو اللجوء إلى الدول العالمية، ومنظمات مثل الأمم المتحدة، ومجلس الأمن ومحكمة لاهاي الدولية.


ويستطيع المثقفون الأكراد في دول الغرب، تشكيل منظمة من أجل رفع طلب رسمي لتلك الجهات الدولية، لإقامة محكمة جنائية للمجرمين في كُردستان.


والأمر يجب أن لا يكون لغرض الإنتقام الشخصي، وإنما لبناء أساسٍ دستوري في إبتداءٍ فريدٍ ومحمود، ألا وهو منع الطريق أمام أي سلطة جديدة من التورط في الجرائم، مثل القتل والتعذيب وإختلاس الأموال العامة.
بالطبع إن من شأن هذه المحاولة دفع المسئولين الأكراد نحو الإستيقاظ من الغفلة، والشروع في إصلاحات كثيرة على مستوى الخدمات العامة للشعب، وسحب جزء من أموالهم المودعة في البنوك وصرفه للناس من أجل إسكاتهم. لكن يجب علينا أن لا نساوم في منتصف الطريق في سذاجة وجهل.


سوف يرعوي أهل السلطة بمحاولات معارضة عاقلة، لكن بناء الدستور والشرعية التي تصون الحريات العامة وحقوق الأفراد والمجتمع، يستدعي تضافراً كبيراً ونضالاً طويلاً.


ولا شك أن الدول المتقدمة والديموقراطية، ستدعم حركة المجتمع الكُردستاني نحو الدستور وحماية حقوق الإنسان.
هذه المحاولة تكون سبّاقة لتأسيس أرضية متينة لنظام عادلٍ في كُردستان، وأفقٍ مشرق لجيلنا والأجيال القادمة.
ونودّ أن نبشر شعبنا أن البدايات التأسيسية لهكذا حركة بدأت في الشروع، وستقوم بمهمّاتها في وقت قريب، ونرجو أن تلاقي الدعم والتعاون من كافة قطاعات الشعب الكُردستاني والخيرين في العالم.

علي سيريني

[email protected]