دأب الأكراد على لوم الآخرين (الآخرين المختلفين قومياً) في مسيرة معاناتهم وعذاباتهم وانكساراتهم. ولم يواز هذا اللوم وزناً وثقلاً سوى إعفاء النفس (الأنا) من المسائلة وإمتحان الإختيارات، في رحلة البحث عن التفسير والشرح للواقع الكُردي بكل أبعاده. لكن رحلة البحث وظيفة عقلية، تزود طالبها بالمنهج والوسيلة وفي مقدمتهما المسائلة والإمتحان. الأكراد قلّما استعملوا عقولهم، وهذا ليس طعناً فيهم بقدر ما هو تقويمٌ لمسار دروبهم وطرائق معيشتهم. وبغض النظر عمّا إذا كانت الشهادة المذكورة تزعج ناكرها ورافضها، فإن الواقع الكُردي نفسه يثبت أن أهله لم يستعملوا عقولهم إلا مقداراً قليلا. وهل أدل على ذلك من البؤس والشقاء الذي هم فيه منذ آماد طويلة؟


على أن الآخرين غير الأكراد، من عناصر الجوار الكُردي، ليسوا بأفضل من الأكراد في استعمال العقل في الحياة. كما أننا نقدر تشخيص الحال الكُردية ببيان التلازم في قرينة الملازم أن الأكراد في الواقع المذكور، إنما يسلكون دروب الأقوام التي تحيط بهم من عربٍ وفرسٍ وترك، مع تفاوت في النتائج أن ألاخرين يتمتعون بعيش أفضل من الأكراد لأسبابٍ قد لا تكون مكتسبة في إجتهاد.


الرئيس جلال طالباني، يُشكل تلك الظاهرة التي نقدر في خلالها معرفة جانبٍ مهم من الفضاء السياسي الكُردي الفاشل.
فخامة الرئيس يتمتع ويعاني في آن، من ثقلٍ في الوزن البدني. ولا يساوي هذا الثقل وتلك الفخامة، سوى خفة الرجل بتلك الأنظمة التي تشوي الأكراد على كأنون الرفض!


تلك بالطبع خصلة قديمة ليس لها علاجٌ إستشفائي.
ولكن حتى لا نغمط حق الرجل في ما له وما عليه، ينبغي أن نشير إلى بعض خصاله المحمودة وفضائله، وهي بالطبع قليلة بالقياس مع ما تركه من رذائل، تاه فيها الأكراد، وأمست ظواهر ستقلب الأجيال القادمة ما شاء الله أن تقلب.
الرجل حاول جاهداً الوصول إلى إتفاق مع خصمه القديم السيد مسعود بارزاني، بعد مهالك كثيرة حصدها في الحروب الداخلية في كُردستان. وتوجت محاولاته باتفاق جميل عام 1998 في واشنطن، برعاية السيدة مادلين أولبرايت وزيرة خارجية أميركا آنئذٍ. الإتفاق وفّر أرواحاً كُردية أخرى، كانت في طريقها نحو الإفتداء، في مذبحة الحرب بين الحزبين الديموقراطي والوطني الكُردستانيين.
كما ورفض التوقيع على إعدام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وهو أمرٌ سيكتب له في التأريخ كفضيلة كبيرة. ومساعي طالباني في تقريب الفصائل العراقية المتحاربة مسألة واضحة بشهادة أغلب الناس المنتمين لتلك الفصائل.
هذه بعض أو جلّ حسنات السيد جلال طالباني في حياته السياسية، وهو اليوم يقارع مصيره المحتوم على مضض، ولا يفصل بينهما سوى القليل من أيام هذا الزمن البئيس.


ولكن لنبدأ في محاسبة الرجل، بما لزم به نفسه من نضالٍ قومي، يحسب نفسه من روّاده.
طالباني منذ أكثر من نصف قرن، يعمل في عالم السياسة خلف شعارات، الكفاح القومي الكُردي. ووجوده في بغداد كرئيس دولة، ناتجٌ عن مسار (الكفاح) المذكور. ولكن منذ تسنّم فخامته مقاليد الرئاسة في العراق، بدأ يثبت براعته السياسية بالمزيد من توكيد السياسات البالية المعمولة بها كدستور في أنظمة ديكتاتورية، وعلى سبيل المثال تلك السياسات الإقصائية بحق الأكراد، والتكوينات الأخرى.
في زيارة له إلى أستراليا بعد تعيينه كرئيس لمجلس الحكم مدّة شهر، عقب سقوط نظام صدام حسين، لم يترك الرجل من أثرٍ في الزيارة غير مسألتين تحدث عنها أنصاره من مؤيدي الإتحاد الوطني هنا في أستراليا:
الأولى إمتعاضه الشديد لدى رؤيته العلم الكُردستاني، أثناء هبوط سيادته في مطار (أديلايد) بجنوب أستراليا، وأمرِه برفع العلم العراقي وحده.
الثانية طلب سيادته بطة مسلوقة في أحد المطاعم الفاخرة بغرب أستراليا! ويبدو أن تكالبه النهم على القصعة/القصعات سبّب له معضلات صحية، نُقل على أثرها إلى المستشفيات الراقية في الأردن ومن ثم في أميركا قبل عام.
أسوق هذا الحديث وهو ذو شجون، وإن بدا مضحكاً بعض الشئ، فشر البلية ما يضحك.
أود أن أعلن للجميع وقبل كلّهم الأكراد، أن أي مقالٍ أكتبه أو حديثٍ أخوض فيه ليس المبتغى وراء ذلك النيل من أحدٍ أو جهة، بل المأساة تفرض نفسها على المقال ليرص بياناته بمفردات المأساة نفسها.


هذا الرجل الشاعر بالنقص إزاء كلّ ما هو أجنبي، ونابذ مُقزِز للكثير من (الذات القومية) على مستوى البشر والتراث، يستمد قوته من الإزدواج الكائن فيه تجاه الفضائين، فجعله مخلوقاً من الطراز النادر والشاذ الغريب.
والمفارقة تكمن في نجاحه، من ركوب الموجة، وتسييرها نحو غايات خرجت عن مسار النضال القومي، لتتحول لاحقاً (كما اليوم) إلى أمور لا علاقة لها البتة بمصالح الشعب/ الأمّة.


والمفارقة هي في الرجل وهو يضمر الكره للذات: الذات الكُردية، لكنه يمتطي السياسة، فوق شعبٍ مسلوب الإرادة سلفاً، ومسلِّم أمره للريح أين اتجهت وللكرة أنّى تكورت.
في الشعوب المتخلفة والجاهلة، يقدر المستكبر المتجبر في فعل مايشاء، ولكن المتواضع يعرّض نفسه للإشمئزاز العام، مهما كانت النوايا حسنة.ّ ولعلّ ذلك يفسر بعض أسرار نجاحه الشخصي والعائلي في الإكتساب السياسي ومحصلاته من نِعم.

إن تعنت الرجل وتكبره أما الأكراد الذين جالسوه، وعدم السماح للآخرين في إبداء آرائهم أمامه شئ معروف. فهو يرى نفسه الأعلم والأقدر، والأجدر بالقرار والطرح والضرب في كلّ فصل وباب. قراءة سطحية في كتابين مختلفين يبين ذلك بوضوح.
الأول أقرب المقربين من السيد جلال طالباني، نائبه السابق نوشيروان، في كتاب له بعنوان (من على ضفاف دانوب إلى خرَي ناوزنك)، يروي مواقف غريبة عن طالباني تجاه عناصره وعموم الأكراد. الصفات التي ذكرها الكاتب عن الرجل تبين مدى تهوره وتكبره وعنجهيته.
الكتاب الآخر من تأليف خصم له بعنوان (جلال طالباني ومنظمته والموقف من ثورة جنوب كُردستان) للمؤلف آسي رباتي، وهو كتاب ملئ بالوثائق. في الكتاب هناك تشخيص سريري كامل للرجل.


في مقابل ذلك أنظروا إلى الرجل في موقفين جديدين جداً من الأجنبي، أي ما هو غير كُردي. في زيارة السيدة كوندوليزا رايز له في العراق، مسك الرجل بيديه كلا جانبي رأس كوندوليزا بعيداً عن كلّ الأعراف الديبلوماسية والسياسية، وبدأ يطبع القبلات على وجهها في إحراجٍ واضح لها. يُعتبر هذا التصرف في العالم الغربي تصرفاً بدائياً وهمجياً.


الموقف الثاني لدى زيارته الأخيرة إلى تركيا وما لاقاه من خزي وعار من الجانب التركي، مما سبّب في تجريح ليس كرامة الأكراد وحدهم، بل العراقيين كلّهم، كونه رئيساً للجمهورية.


ليس بخافٍ على أحد كيف يعادي النظام التركي، حقوق الأكراد، وتطلعهم نحو التمتع بما أعطاهم الله سبحانه من نعمٍ وخيرات.
وقد أسس لهذا الرفض الجنوني المريض، كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية. ووصلت المأساة حداً ألغي في دستور الجمهورية إسم الأكراد وعنوانهم، ليس في تركيا فحسب بل في العالم كلّه. أي أن المذهب التركي يقول بعدمية الأكراد كقومية في كوكبتنا.
في تسعينيات القرن الماضي إحتفل الأكراد بشخصيتين وقفتا موقفاً شجاعاً، لصالح القضية الكُردية.
العقيد الليبي معمّر القذافي، فضّل مصلحة الأكراد على علاقة بلده بتركيا، وفي منتصف التسعينيات خذل قذافي رئيس وزراء تركيا (نجم الدين أربكان) أمام شاشات التلفزيون قائلاً له: ( اعطوا حق الأكراد فهم أمّة، لهم الحق في تشكيل دولتهم تحت شمس الدنيا)!
أربكان كان قد زار ليبيا على رأس وفد كبير (ما يقارب من مائة رجل من مختلف الأصناف) لبناء علاقة واسعة وعميقة مع الدولة الليبية، وهكذا ردّ القذافي.

نيلسون مانديللا أصبح اليوم رمزاً عالمياً كبيراً، كسياسي إنساني ضد الظلم والعنصرية.
إختارته مؤسسة في الدولة التركية بداية التسعينيات، لجائزة كمال أتاتورك،التي تعطى لشخصيات عالمية.
مانديللا ومن دون تردد، رفض الجائزة، وأعلن كلمته المشهورة التي صارت بعد ذلك شعاراً: (من أراد جائزة أتاتورك ليذهب إلى تركيا ويعيش ككردي ليومين)!


في الآونة الأخيرة وكعادتها، شنت القوات التركية هجوماً واسعاً على مقاتلي حزب العمال الكُردستاني، الذين ما برحوا ينادون للمفاوضات والحل السلمي لقضية شعبهم. الهجوم مني بخسارة كبيرة بعد البسالة والمقاومة التي أبداها مقاتلوا الكُردستاني. الجيش التركي ذاق طعم خسارة ثقيلة، وفوق ذلك نهرته أميركا الحليفة التي ذاقت منها تركيا خذلاناً كثيرا.
لكن المدنيين من أهالي القرى العزل دفعوا أثماناً باهظة. فقتل منهم عدد ملفت فضلاً عن الجرحى. كما أن ممتلكاتهم وممتلكات العامة مثل الجسور تعرضت للدمار. هذا بالنسبة للأكراد العراقيين الذين (ينعمون) بوجود رئيس كُردي في العراق.
أيّ مفهومٍ بسيط للسياسة والحس الإنساني العام، ناهيك عن النخوة والشهامة وعزة النفس، يستدعي من رئيس البلاد إستنكار تلك الهجمة المتوحشة للجيش التركي، وما سببت من دمار بالشعب.


لكن جلالاً لم يستنكر ذلك فحسب، بل قفز فوق هذا، وقفز فوق إلغاء الهوية الكُردية في الدستور التركي تأريخياً، وذهب ـ من دون داع أو حاجة حقيقية ـ إلى تركيا.
في المطار لم يُستقبل كما يُستقبل رؤساء الدول، ورفض الجيش أداء التحية له وإستقباله. إضطر الحزب الحاكم إدراج زيارة طالباني ضمن زيارة عمل وليست زيارة رسمية!
لكن لم يكتف الرجل بهذا العار والخذلان، وراح يضع بكل إجلال وإكبار أكاليل الزهور على قبر أتاتورك، الذي رفض الإعتراف بالهوية الكُردية حتى مات.

هذا هو شأن من يصغّر من قيمة شعبه، وينظر إلى الأجنبي نظرة النساء العجائز في القرية إلى شابٍ وسيم من المدينة!

ليت الرئيس كان كُرديّاً، ربع كُردية العقيد معمّر القذافي ونيلسون مانديللا.
وعلى الأكراد الكف عن لوم الآخرين كثيراً، والإنتباه إلى ذواتهم وما تحمل من كوارث مزرية!

علي سيريني

[email protected]