بمفهومها العصبي والعنصري، تظل المشاعر القومية تستحمر فئات كثيرة وواسعة لصالح فئات صغيرة كالعوائل والقبائل وأشخاص معدودين كالزعماء والمسئولين.
على أن الإهتمام بالقومية والنفخ في نيرانها وصقل سيوف جنونها، أقوى بكثير لدى تلك الفئات الكثيرة التابعة، من تلك الفئات الصغيرة المتبوعة التي لا يهمها غير مصالحها الضيقة، بل وتدمر القومية من أجل أدنى متعها. لذلك فهي تمتطي بإستمرار أمواج القومية، وتتمتع برعشة شهواتها.
إن النيران المستعرة في منطقتنا بإسم القومية تضرم في هشيم أحلامنا ومعيشتنا، وتفتك بأساً عظيماً في حياتنا البئيسة على أية حال.
الحدّة في خطوطها البيانية بين هذه القومية أو تلك، في أذهان المتعصبين قومياً، ما هي إلّا أوهامٌ مريضة يتقفاها المصابون بداء العنصرية القومية، وهو داء لا يشعر مصابه بخطره ولا هو يقرّ بحالته المرضية، بل يمضي بعيداً يبرر إنفعاله ويجمّل تجاعيد صورته وبالتالي يحرّض من حوله لإحتفال جنوني أوله جلبة بربرية، وآخرها كارثة إنسانية.
لو كانت الحدّة في الفواصل بين قومياتنا إلى هذه الدرجة ـ كما يتخيلها المهوسون بالعنصرية ـ لما كانت العداوات والخصومات بين أبناء القومية الواحدة أشد تنكيلاً من الخصومة بين قوميتين.
وفوق ذلك لما استجدى أبناء القومية الواحدة بقومية أخرى، للقضاء على إخوانهم من الدم واللحم القومي.
لنذكر الشواهد علّ بعض المرضى ينعمون بالشفاء ويتخلصون من الداء ووبائه.
غالبية الدول العربية تحالفت مع أميركا لضرب العراق، ضرباً قد لا يُشفى منه إلى يوم القيامة أو ما طال من الزمن طول الأمل. مصر التي تعتبر نفسها سيدة العرب، كان العراق يأوي لها خمسة ملايين مواطن، يحوّلون العملة الصعبة إلى أهاليهم وذويهم، في نعمة عظيمة. كان ذلك كافياً لمصر العروبة أن لا تشارك العدوان على عراق العروبة، لكن أول صاروخ ضرب العراق ميدانياً، لم يكن أميركياً بل مصرياً عربياً.
تحالفت سوريا شقيقة العراق قوميةً ونظاماً، مع الفرس الإيرانيين في الحرب التي دامت ثمانية أعوام، بين العراق وإيران.
اللبنانييون أهلكوا بعضهم بعضاً وهم أبناء البلد الواحد. ربّ قائلٍ وماذا عن الإختلاف الطائفي؟
أقول: ذلك صحيح. والطائفية في سياساتها العصبية والبغيضة توأم القومية. لكن حتى هنا فإن الإنتماء الطائفي، لم يمنع أنهار الدماء أن تجري في القتال الذي دام فتيله ودخانه دهراً، بين حزب الله وحركة أمل الشيعيين في لبنان، لأن الإنتماء الحزبي والفئوي الشرقي هو أيضاً ربيبة القومية/ الطائفية العنصرية المقيتة.
الإنتماء القومي العنصري لم يُسعف الحركة القومية (الذئاب الرمادية) التركية وحزب الشعب التركي في أحواض الدماء التي طافت على جثث أعضائهما في شوارع تركيا.
الأفغان أنهوا بعضهم بعضا. وعلى شاكلة الآخرين في الإنتماء القومي والطائفي وَحْدةً وإختلافاً، فقد ظل الصراع والقتال، ومن ثم الدمار والهلاك، المعادلة الدائمة التي تاه فيها الأفغان طويلاً في طرح وضرب نتائجها المخزية الوخيمة.
أما الأكراد، وما أدراك ما الأكراد، فقد سجلوا لأنفسهم السجل الأضخم في النكبة، وفي التشبث بردائها متعةً بالداء، وغضباً في إستجداء الشفاء من غليله، بالمزيد من العنف والويل والدمار، في سبل العصبية القومية التي هم من ضحاياها في أولاها وفي اُخراها.
يروي العلّامة أمين زكي بك ( أشهر مؤرخ كُردي) في مقدمة (خلاصة تأريخ الكُرد وكُردستان) أنه لم يشعر بكُرديته إلّا حين قام الطورانييون عبر الإتحاد والترقي، ينادون بقوميتهم، والعرب بعروبتهم وهلم جرا.
في دمشق هناك حي بكامله وإسمه حي الأكراد. عوائل كُردية مازالت تحتفظ بعنوان كُرديتها في دمشق وفلسطين ولبنان ومصر والسودان وبلاد المغرب العربي، وهم من بقايا الأكراد الذين خدموا في دولة صلاح الدين الأيوبي.
وفي الأردن للأكراد إختلاط مبارك مع العائلة المالكة. والحال فإن وجود الأكراد خارج كُردستان ليس وجود المرء في ديار الغربة، إنما كلّ تلك البلاد هي مواطنهم ومساكنهم يتقاسمونها مع إخوة لهم من العرب وغيرهم. والأتراك والتركمان والفرس هم أيضاً أصحاب الديار مع إخوانهم.
ولكن لنرى التفصيل، الذي يدقق فيه بعض المرضى المصابين بداء القومية العنصرية الهدّامة.
قبل أيام قامت شرطة العروبة في سوريا بقتل وجرح عدة مدنيين أكراد أثناء إحتفالهم بعيد نوروز.
الجريمة بشعة بالطبع ونكراء. فقتل النفس حرام ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.
الجريمة ليست جريمة عربية ضد الأكراد والعرب منها براء. فكلّ عربي شريف صادق مع عروبته وكينونتها، يعتبر الأكراد إخوته ويصون حماهم وأعراضهم.
فهذا النظام هو نفسه الذي قتل الألوف من أبناء سوريا، من العرب، في المدن والأرياف قبل أعوام طويلة. والنظام نفسه مازال يعذب الآلاف من المساجين العرب السوريين في الزنزانات التي تخرق الأرض عمقاً. إذن فكما هنالك عرب ضالون يعادون الكُرد، فهناك أيضاً عرب صالحون يدافعون عن القضية الكُردية. الأسماء كثيرة يعجز الواحد عن إحصائها. والعربي الضال هو عدو العرب والعروبة قبل أن يكون عدواً لكُردستان.
ولكن لنرى الوجه الآخر لجرائم القتل بحق الأكراد بيد كُردية، في مثال الكُردي الضال، شقيق العربي الضال.
في أعوام السبعينيات والثمانينيات حدثت معارك فظيعة بين فصائل الأكراد قتل فيها الآلاف من شباب الأكراد، بل وتمت فيها عمليات الذبح والبتر وتعذيب الأسرى حتى القتل.
في عام 1988 اثناء قصف نظام البعث بلدة حلبجة بالأسلحة الكيمياوية، قام أفراد من البيشمركة بقطع آذان وأيادي الضحايا الأكراد من أجل الذهب والمجوهرات.
وتحدث عن ذلك كلّ من (آسي رباتي) في تأليفه عن الإتحاد الوطني الكُردستاني وجلال طالباني، وكذلك (شيركو بيكس) في قصيدته الشعرية مضيق الفراشات.
في حزيران عام 1994 قام مدنييون أكراد في مدينة السليمانية بتظاهرة سلمية فما كان من إخوتهم الأكراد المسلحين إلا أن فتحوا نيران بنادقهم فشتتوا سير جمعهم بعد أن خلّفوا ما يقارب مائة قتيل، من بينهم نساء وأطفال، ناهيك عن الجرحى.
في منتصف التسعينيات وبعد أن باغت الإخوة الأكراد إخوتهم من الأكراد التابعين لحزب العمال الكُردستاني، تحالفاً مع العدو القومي المزعوم (أي التركي)، وقعت فتاة كُردية في الأسر. وما كان من ثمانية مقاتلين أكراد إلّا وأشبعوها إغتصاباً قبل أن يحولوا جسدها إلى منخل، إستمتاعاً بالرصاصات التي خرقت جسدها.
في عام 1986 قام السيد جلال طالباني ومنظمته الكُردية بجرّ الحرس الثوري الإيراني (العدو القومي الكُردي كما يقال) إلى داخل مدينة كركوك (قدس كُردستان) فقصف الحرس نفط الأكراد، وعلى أثره جنّ زعيم العروبة في بغداد وذهب يقتص من الأكراد المساكين العزل، ليعود مع جلال طالباني في الحضن والقبلات بعد أعوام، وكأنّ شيئاً لم يحدث!
أما السيد مسعود بارزاني وحزبه الديموقراطي الكُردستاني فقد تقدم حرّاس الثورة من الفرس وأدخلهم بلدة الحاج عمران الكُردية فردّ صدام بخطف الألوف من البارزانيين الأبرياء وقتلهم أحياء في جريمة يندى لها جبين البشرية، ليعود بقوته وجبروته، وهو عربي، ليساند السيد مسعود بارزاني عام 1996، ليمكّنه في أخذ مدينة أربيل الكُردية من السيد جلال طالباني في حربٍ راح فيها ألوف الأكراد من المقاتلين والمدنيين العزل.
طالباني بقي وفياً لإيران، وتقدم جيشه منكباً على أكراد العراق تارة وأكراد إيران تارة أخرى، في قتلٍ ودمارٍ ودماء.
ولكن إذا كان الأكراد مازالوا يُقتلون بيد أعدائهم القوميين، فلماذا يظل أسياد القومية الكُردية على وئامٍ ووفاق مع الأنظمة المعادية للقومية الكُردية؟!!
شباب الأكراد يُقتلون في سوريا لكن أجمل وأرفه أحد المنازل في الشام تعود ملكيته لفخامة الرئيس جلال طالباني، في حي المزرعة، يُشبع فيه وفي قصر الضيافة بدمشق رفاق العرب البعثيين السوريين قبلاتٍ وأحضان.
الأكراد يُقتلون في إيران لكن مصالح قيادة الحزب الديموقراطي الكُردستاني بقيادة الرئيس مسعود بارزاني، هي الأشد سخونة وتقدماً داخل إيران، التي حرر لها الأكراد أحد زعماء المخابرات (محمد جعفر صحرارودي)، أثناء مداهمة أميركا قنصلية إيران بأربيل العام الماضي.
صحرارودي كان قد قتل عبدالرحمن قاسملو الكُردي، فيما حرره الأكراد لصالح إيران، مما أدى إلى سخط أميركا وغضبها.
قبل أيام صرّح (جمال موتكه) عضو المكتب السياسي للحزب الديموقراطي الكُردستاني، لأسبوعية ستاندر الكُردية أن جهاز (آسايش) الأمن الكُردي يُدار من قبل جهاز مخابرات إيران وتركيا اللتين تسيطران تماماً على كُردستان وأمنها!!!
أجمل القصور والفيللات في تركيا وإيران وسوريا، يملكها زعماء أكراد في تفاهم ووئام وودّ مستمر، مع قادة الأتراك والإيرانيين والسوريين.
ليس هناك (صدقوني) أدنى مشكلة بين هؤلاء لأنهم جميعاً تجار: تجار الشعوب والدماء.
أما الذين يتيهون جهلاً وإستحماراً في حروب وقتال مخطط له سلفاً وعلفاً للمزيد من السيطرة، فهؤلاء علينا أن نقول لهم بصوت قوي ومسئول: إستفيقوا يا جهلاء القرن الواحد والعشرين. فأحفادكم غداً يشحذون الخبز أمام شعوب العالم ولن يمتعهم ولا يسعفهم الإنتماء إلى قوميات لا تبني الحياة، بل تشحن الكثير من وقود العصبية والجهل والهلاك في جعبة الزمن!
علي سيريني
التعليقات