أثارت فتوى للشيخ والداعية المصري الأصل قطري الجنسية يوسف القرضاوي بإباحة الكحول بنسب بسيطة جدلاً واسعاً بين شرائح غير محددة من الناس بين مؤيد ومعارض ومصعوق لهذه الفتوى. وكانت صحيفة quot;العربquot; القطرية نقلت الثلاثاء الماضي عن الداعية الشهير القرضاوي قوله بأنه quot;ليس هناك مانع من تناول المشروبات التي تحتوي نسبا ضئيلة من الكحول التي تتشكل طبيعيا بفعل التخمرquot;، (وهل هناك كحول يتشكل بغير فعل التخمر؟ ولفظة الخمرة أتت أصلاً من التخمر). وقال quot;إن وجود ما نسبته خمسة في الألف من الكحول لا أثر له في التحريم؛ لأنها نسبة ضئيلة جدا خاصة إذا كانت بفعل التخمر الطبيعي وليست مصنعة ولذلك لا أرى حرجا من تناول هذا المشروبquot;. فالأمر إذن ليس بذاك الكم من السوء والذم والمنكر الذي يحاول الفقهاء تسويقه والعمل عليه وتأنيب شاربي الكحول وجلدهم على هذا الإثم والفعل الشنيع والعدوان. وهناك quot;تخريجةquot; فقهية ممكنة لهذا الأمر، فلم كل هذا العك والجدل والإشكال والإعياء عبر ألف وأربعمائة عام من السفسطة والصد والجزر والجلد والكلام الهراء؟

ويطلق المسلمون على الخمر اسم المنكر، والعياذ بالله، المذموم الملعون، والمشتق من الاستنكار واستهجان هذا الشراب الذي خلقه الباري عز وجل من جملة ما خلق من طيبات وملذات وغذاء وأشياء أخرى. ويقولون بأنهم يذهب العقل والحياء، ومع تحريمه، وبدونه، فقد ذهب أيضاً العقل العربي والإسلامي، والحمد لله، بدون رجعة. ويعتبره كثير من الفقهاء من الكبائر التي ما بعدها من كبائر، وقد أفنى الإمام ابن مالك عمره ووقته في شرح وتفسير هذا المنكر الخبيث، والعياذ بالله، حتى ذهب القول quot;مالم يقله مالك في الخمر quot;، مثلاً في ديار الإسلام للدلالة على الاسترسال والإسهاب في الشيء. ولم يترك الحديث الشريف عن تحريم الخمر ولعن شاربه وبائعه وتاجره ووووو، حرية الحركة أو التنصل من المسؤولية لأحد في هذا المجال. ومع ذلك استمر كثير من المسلمين بشرب الخمر غير آبهين بكل ذاك التحريم والمنع والتهديد والوعيد بجهنم والسعير وسوء العقبة والعذاب. وتشكل اليوم عمليات تهريب والاتجار بالخمور في بعض الدول الإسلامية المتزمتة تجارة نشطة ومزدهرة وتدر بلايين الدولارات على أصحابها دون الالتفات لابن مالك ولا للقرضاوي وغيرهم من فقهاء الإسلام. أي أن كل ذاك التراث الفقهي الناري لم يفلح ولم يمنع كثيراً من المسلمين من مغامرة ولذة احتساء الخمور للهروب من واقع ضاغط لا يتزحزح ولا يتغير، أو للفرفشة وتدليع الذات بعيداً عن طنين وزئير الفقهاء. ويظهر إطلاق هذا الاسم على هذا المشروب مدى ما ينظر إليه المسلم من استهجان وريبة وازدراء لهذا المنتج البشري الذي يشكل العمود الفقري في اقتصاديات بعض الدول كفرنسا مثلاً، التي تنتشر فيها تجارة وتخزين النبيذ الفرنسي المعتق، وتحقق دخلاً خرافياً للاقتصاد الوطني الفرنسي ينعكس رفاهاً، وبحبوحة على المواطن الفرنسي غير المسلم، فيما تعيش الدول التي تحرم تناول وتداول الخمر وتجلد من يتعامل به مجاعات حقيقية ونقصاً في الأدوية واستفحالاً في الجهل والأمية وانتشاراً للخرافات والأباطيل.

وبغض النظر عن هذه الفتوى المثيرة ومثيلاتها للشيخ القطري، فإنها تمثل تعبيراً صارخاً عن اصطدام القيم البدوية التي حملها معهم الغزاة العرب البدو إلى دول الجوار، واستحالة تأقلم تلك القيم مع كل العادات والأعراف والسلوكيات الإنسانية المعروفة التي سادت عبر تاريخ التطور البشري والتي يسلكها الناس في غير مكان من العالم، كالسفور، وشرب الخمور، والاختلاط، والموسيقى، والفن، والفائدة على الأموال والرسم، والغناء.....إلخ والمحرمة شرعاً في الإسلام. وكم سيكون النظلر بديعاً وجميلاً ومثيراً بعد هذه الفتوى، وأنت ترى ملتحياً بزبيبة ودشداشة ومسبحة وهو quot;يكرعquot; الخمور بنسبة الخمسة بالألف التي صارت مسموحة شرعاً بعد هذه الفتوى وتجود علينا قريحته بما فيها من quot;جمال وروعة وإبداعquot;؟

والغربيون يحتسون الخمور بشراهة، ويفرفشون، ويسكرون، ويتمتعون بمتع الحياة، وبطرق تكاد تنفلت من عقالاتها، أحياناً ومع ذلك يبدعون ويخترعون ويعيشون برفاه يحسدون عليه ويجعل المسلمين الذين يحرمون الخمر يطلبون اللجوء السياسي والحياة في ديار الكفر والمنكر والخمر. وربما استند التراث الغربي في هذه العادة على قول منسوب للمسيح عيسى بن مريم :quot; قليل من الخمر تنعش القلبquot;، (لنلاحظ هنا هذه quot;القليلquot;، ونقارنها مع القليل ونسبة الـ5..% في فتوى الشيخ القطري. والغربيون ومع كل شربهم للخمر، والاختلاط، والإباحية، لم يتخلفوا بل على العكس تقدموا وقطعوا أشواطاً بعيدة جداً في دروب التطور البشري. ولم تكن الخمرة، والعياذ بالله، عائقاً أمامهم في التطور والارتقاء والتسيد على الكوكب الأرضي وتصدير الغذاء والدواء للدول الإسلامية. فيما تعيش الكثير من الدول الإسلامية لتي تجلد شاربي الخمور في بؤس وفقر مدقع وتعاني الويلات ومهددة بالحروب والمجاعات والانقسامات. فهل هناك ثمة علاقة بين تحريم الخمر، أو تحليله، وبين التطور والحضارة والتقدم؟ وأعتقد أن الجواب الحاضر فوراً هو لا. وهو مرتبط إلى حد كبير بتجسد قيم الحرية الفردية في الغرب التي هي أساس وعماد ذاك التطور وانعدام عقلية الوصاية التي يجسده الفقهاء.


ولابد لنا من شكر الداعية القطري، على هذه الفتوى التي تمثل محاولة جريئة وباسلة للإفلات من قبضة الفقهي البدوي الذي يصطدم كلياً مع المعايير الإنسانية، ومع كثير مما توصلت إليه البشرية من معارف وخبرات. ونتمنى عليه المضي قدماً في هدم المزيد تلك الجدران والأسوار العالية التي أشادها فقهاء الظلام عبر التاريخ الإسلامي والتي أدت إلى هذا الدرك والقدر المذهل من الوجوم والعجز والتخلف والانحطاط. فالقيم البدوية لم تعد صالحة للحياة، وما مظاهر الغليان، والفوران، والتناقضات، والتشوهات، والقصور الكبير الذي تعيشه الدول الإسلامية إلا انعكاساً لحالة الموات تلك التي لن تستطع إمبراطوريات المال والإعلام والفضائيات من أن تحييها من رميم، أو أن تنفخ فيها وتجملها وتعيد لها الحياة، فالتاريخ والحياة البشرية ماضيان قدماً إلى الأمام، ولن يعودا البتة إلى الوراء، ولو كرهت ذلك جيوش الفقهاء والدعاة الذين يخوضون حرباً خاسرة من الآن، ويقفون هم في واد، والعالم كله في جانب آخر، وواد.

من جميل القول:

يا سيدي وأمير الناس كلهم قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني كما تراني سليب العقل والدين

شعر لأبي النواس نقلاً عن لسان جارية كانت في ليلة سكر وعربدة حمراء مع أحد خلفاء الإسلام

نضال نعيسة