حينما أسس الحاكم المدني الأميركي السابق في العراق بول بريمر شبكة الإعلام العراقي، عقب سقوط نظام صدام بفترة وجيزة، تعهد في قرار التأسيس، وفي خطبه ومقابلاته بأنها ستكون شبيهة بهيئة الإذاعة البريطانية، من ناحية الإستقلالية والحرفية. وحرص السفير بريمر على تحقيق quot; أمنيته quot; هذه، قدر المستطاع، رغم قصر مدة إقامته وتحمـُّله المسؤولية في العراق. فقد لوحظ، في تلك الفترة القصيرة، التزام الشبكة الوليدة بذلك، رغم كونها تجربة جديدة تماما ً في مناخنا الاستبدادي، وقد نشأت من فراغ تقريبا ً، وكان ينقصها كل شيء، بعد أن سرق بعثيو الإذاعة والتلفزيون كل الأراشيف الصوتية والتصويرية وباعوها للقنوات الأجنبية ( خاصة الجزيرة والعربية ) أو quot; دعبلوها quot; من تحت المنضدة، إلى وريثة إعلام البعث، أعني قناة الشرقية
وكم كان الأمر مثيرا ً للفخر حقا ً، حينما كانت الشبكة وقناتها ( وكان رمزها أو quot; لوغوها quot; كما أتذكرimn ) تعرض ضمن نشراتها الأخبارية أفلاما ً وصورا ً لكل التيارات السياسية والاجتماعية، حتى المناوئة منها للعملية السياسية، قبل أن يحمل الجميع السلاح ويتهارشون كما الديوك المستفـَزة، إن لم أقل الثيران الهائجة! حتى أنني شاهدت ذات مرة على الشبكة فلما ً عن تطاهرة للسلفيين في بغداد، يتساءلون فيها: ماذا يريد الأميركان والحكومة من quot; المسلمين quot;؟ ويقصدون أنفسهم فقط، من بين ثمانية وعشرين مليونا ً من العراقيين quot; غير المسلمين quot;!
إلى هذه الدرجة كانت حرية واستقلالية شبكة الإعلام العراقي في العهد البريمري الزاهر!
أما في العهود الوطنية اللاحقة، وخاصة في عهد المدير العام المقال حبيب الصدر، فقد اتسعت وتشعبت هيكلية الشبكة ونشاطاتها، وازداد منتجها الإعلامي غزارة، ولكن التدنـّي النوعي والمهني ظل سمة غالبة لنشاطات وخدمات الشبكة وفروعها.
ومما زاد تردّي المستوى المهني لشبكة الإعلام سوءا ً، هيمنة السيد حبيب الصدر على جميع مفاصلها، وظهوره الإعلامي المتكرر بمناسبة وبدونها، بشكل يذكـّر بالظهور المتكرر والدائم لأي دكتاتور ؛ صدام المقبور إن شئت! فحينا ً يطهو الصدر طعام عاشوراء، وحينا ً يرعى مهرجانا ً شعريا ً، وآخر يكرّم نساء الشبكة في حفل لايشارك فيه سوى الذكور من ذوي الشوارب الكثة.. وهكذا!
ولقد لفت نظري، مرة ً، أن الشبكة كانت تضع quot; كلمات مأثورة quot; من إبداع حبيب الصدر واصفة إياة بـ quot; الكاتب quot;، فبادرت ُ إلى اقتراح إضافة عبارة quot; عليه السلام quot; لإضفاء مزيد من القدسية على كلماته الرائعة!
ورغم كل نواقص الصدر هذه، ورغم تراجعه أحيانا ً أمام ضغوط القوى المسيطرة، كهنوتية وسياسية، إلى درجة التضحية بزملائه الشجعان والجريئين، كما ضحى مؤخرا ً بالزميل المتميز، الكاتب الساخر والشاعر المجيد السيد وجيه عباس، فأوقف بث برنامجه النوعي quot; تحت نصب الحرية quot; و quot; هـَجـوَلـَه ُ quot; إلى السليمانية، لكن الصدر حرص إلى حد ٍّ ملموس على الحفاظ على الشخصية المستقلة لشبكة الإعلام العراقي إزاء الضغوط الشديدة الموجهة إليها وإليه، من قبل رجال الدين الحاكمين، والمستشارين الإعلاميين لرؤساء الوزارات، ومن هب ّ ودب ّ وزحف وتسلـّق من حوالق الزمن الرديء التالي لزمن أكثر رداءة. وكانت quot; مقاومة quot; السيد حبيب الصدر لهذه الضغوط الجهنمية ملموسة لكل ذي عينين، إلا أعمى البصيرة. وإذا كنت تأخرت في إطلاق هذه quot; الشهادة quot; حتى الآن، فلحرصي القديم على عدم مدح أي قوي ّ، إلا بعد رحيله أو تنحيته عن المنصب!
ففي الفترة الأخيرة، وفي أوج الصراع بين الحكومة ومن أسمتهم بالخارجين على القانون، حاول حبيب الصدر أن ينأى بالشبكة عن أن تكون ناطقا ً رسميا ً باسم الحكومة. فعرض وجهتي النظر بحيادية تامة استحق عليها التقدير الحرفي والثناء المهني. ولعل القشة التي قصمت ظهر بعير السيد حبيب، هي بث ّ قناة quot; العراقية quot; برنامجا ً مباشرا شارك فيه المستشار السياسي لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، صادق الركابي، من جهة، وأسماء الموسوي عضو الهيئة السياسية للتيار الصدري، من جهة ثانية. ذلك البرنامج الذي بدت فيه الموسوي جريئة وواثقة مما تقول، إلى درجة توجيهها التحية إلى quot; ميليشيا المهدي quot; في البصرة لتصديها للقوات العراقية، فيما بدا الركابي متحشرج الصوت، ضعيفا ً، منفعلا ً وفاقدا ً لزمام المبادرة والحجـّة المقنعة. وكان الأجدى برئيس الوزراء العراقي أن يشد ّ على يد حبيب الصدر، عوضا ً عن أن يدفعه إلى الاستقالة. فمن شأن برنامج كهذا أن ينفع الحكومة من اتجاهين: الأول: إضفاء مصداقية على quot; ديمقراطيتها quot; المدّعاة، والثاني: كشف نواقص دوائرها الاستشارية وحاجتها إلى التغيير وضخ ّ دماء جديدة
وعلى كل ّ حال، فلابد ّ أن السيد حبيب الصدر قد quot; أمـّن quot; مستقبله ماليا ً وتجاريا من خلال وظيفته ومنصبه، كعادة الكثير من المسؤولين العراقيين الحاليين، وهكذا فلا قلق على مستواه المعيشي الراقي، ولاداعي للأسف على فقدانه هذا المنصب
القلق قائم فحسب على استقلالية شبكة الإعلام العراقي، التي تكاد أن توضع في quot; جيب الصفحة quot; للأحزاب الحاكمة، أو قل للحزبين الرئيسيين، الدعوة والمجلس، أو قل - دون خشية ndash; لحزب السيد المالكي ؛ حزب الدعوة، الذي ماأنجبت أم ٌّ حزبا ً مثله، على مرّ التاريخ، وإلا لوجده المالكي جديرا ً بأن يعيـّن منه فرّاشا ً أو بوّابا ً في مكتب رئاسة الوزراء، عوضا ً عن الإخوة quot; الدعاة quot; الذين يملأون كل الأروقة والدهاليز و quot; الدرابين quot; في حكمنا الديمقراطي الجديد!
علاء الزيدي
التعليقات