تنطلق الدبلوماسية الإسرائيلية، أو إذا شئنا التقيد بالخطاب العربي، الدعاية الإسرائيلية العامة، عادة من منطق يقول باستغلال كل فرصة وكل منبر وكل مناسبة لطرح المواقف الرسمية الإسرائيلية الدبلوماسية، والتي تتغنى منذ قيام إسرائيل برغبة إسرائيل وتطلعها الدائم للسلام في الشرق الأوسط، وبأنها هي التي تمد يدها لجيرانها العرب لكن هؤلاء يرفضونها باستمرار، أو أنهم يبقونها، في أحسن الحالات معلقة في الهواء.
ولا تأبه الدبلوماسية الإسرائيلية، في سبيل تحقيق هدفها الأساسي، وهو كهدف كل دبلوماسية أخرى، رسم صورة متكاملة ونموذجية للدولة، بالتفاصيل الصغيرة، ولا بالفروقات والاختلافات quot;الجوهريةquot; الصغيرة منها والكبيرة، وهكذا تتحول غزة من قضية ملتهبة لشعب تحت الاحتلال، إلى مشكلة غير إسرائيلية غير سياسية وإنما عقبة في الطريق نحو الدولة الفلسطينية.
وامتدادًا لهذا الوصف quot;غير الدقيقquot;، في أخف تعبير، تتوقف الدول العربية والشعوب العربية، عن كونها طرفًا في النزاع مع إسرائيل، ويختزل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني العربي إلى نزاع بين طرفين، إسرائيل من جهة والفلسطينيين من جهة أخرى ليختزل مرة أخرى من صراع بين شعب تحت الاحتلال وشعب يمارس الاحتلال، إلى نزاع - صراع بين إسرائيل المعتدلة (على كل تياراتها وحركاتها وأحزابها اليمينية واليسارية والدينية والأصولية والعلمانية) من جهة وبين المتطرفين في الجهة الأخرى ( حماس وإيران وسوريا)، ومن الواضح بعد هذا التقسيم الإسرائيلي الأميركي، أن على العرب قاطبة إذا أرادوا السلام والاستقرار في المنطقة (الغاية السامية التي تسعى لها إسرائيل!) أن يحسموا أمرهم بدعم المعتدلين.
هكذا وبكل بساطة تقوم رئيسة الدبلوماسية الإسرائيلية وبجرة قلم، أو بوقفة منبر بمحو الصراع الإسرائيلي العربي الفلسطيني من الوجود لترسم بدلاً منه صراعًا آخر من طراز جديد، الصراع بين المتطرفين والمعتدلين، لتدخل من باب واسع إلى لعبة المحاور العربية الداخلية عبر إعادة تقسيم هذه المحاور ورسمها من جديد بما يناسب السياسة الإسرائيلية.
والسياسة الإسرائيلية الحالية تعتمد في كثير من نشاطها على ضعف الموقف الفلسطيني الرسمي، النابع من أسباب ذاتية داخلية، كما من أسباب عربية ndash;عربية، ولكنه نابع بالأساس من السياسة الإسرائيلية، التي واصلت منذ أوسلو التهرب من الالتزامات الإسرائيلية تجاه السلطة الفلسطينية منذ أيام الرئيس الراحل ياسر عرفات، وأمعنت في تكريس سياسة الاستيطان وتشتيت وتقطيع أوصال الضفة الغربية والقطاع، وصولاً إلى الانسحاب الإسرائيلي من غزة ليس كخطوة نحو السلام أكثر مما هي كانت خطوة لإغراق الفلسطينيين في غزة وقضاياها ومشاكلها، والتفرغ لجبهات أخرى فيما الجبهة الفلسطينية غارقة في مشاكلها.
وليس أدل على أن زيارة ليفني لقطر تعكس عمليًا دخولاً إسرائيليًا للعبة المحاور العربية، من تجاهل ليفني للمبادرة السعودية لسلام شامل مقابل انسحاب إسرائيلي كامل من كافة الأراضي العربية المحتلة منذ العام 67.
وهو تجاهل تم اختيار توقيته ومكانه بدقة متناهية، في قلب الجزيرة العربية، وعلى مرمى حجر من الرياض، وعلى مسافة خطوات من استديوهات الجزيرة، وهو توقيت ومكان لهما دلالات بالغة الوضوح والخطورة في آن واحد. زيارة قد تظهر بأنها محاولة لاستمالة قطر وإبعادها عن المحور السوري الإيراني، ولمخاطبة الخليج العربي بخطاب من يشفق على ما يسمى بالقاموس الإسرائيلي quot;إماراتquot; الخليج وأمن الخليج من تفوق إيراني وسيطرة إيرانية قد تهدد الدول والأنظمة العربية في الخليج ، ولكن ليرمي بها في أحضان إسرائيل، وتحت مظلة ترسانتها وعلاقاتها، وهو سيناريو سوف يسيطر من الآن فصاعدا على الدبلوماسية الإسرائيلية تحت مسمى الأمن الإقليمي والتعاون الإقليمي على كافة الأصعدة، وأولها التعاون الإعلامي (وهذا ما يفسر تكريس الوزيرة ليفني وقتا مخصصا لزيارة مقر الجزيرة والاجتماع بكبار العاملين فيها ومحرريها كما أوردت صحيفة هآرتس اليوم، والتي قالت إن اللقاء دار بين الطرفين حول رفع وتراجع الحكومة الإسرائيلية عن مقاطعتها الجزئية للجزيرة والتوجه نحو تعاون بين الجهتين).
لكن وبسبب الأهمية الكبرى التي توليها إسرائيل للتوصل لا لاتفاقيات سلام فردية، أو جماعية مع أي من الدول العربية، دون ربطها بالقضية الفلسطينية، فإنها تطرح عادة، وكتمهيد وبداية للعلاقات بينها وبين من تقبل من الدول العربية، تعزيز التعاون بين البلدين، بعد قطع مرحلة مكاتب المصالح والممثليات الدبلوماسية المنخفضة التمثيل،التي تشكل أداة لكسر ما أسماه السادات بالحاجز النفسي، في المجالات العامة غير السياسية، أي قبل التوصل لاتفاق سلام، ريثما يتم حل النزاع الإسرائيلي العربي- الفلسطيني، لتصبح الملفات الساخنة المتبقية، هي قضايا ثنائية بين إسرائيل والفلسطينيين، أو نزاعات حدودية؛ كما هو الحال مع سوريا ولبنان، بعد سلخ البعد العربي القومي من النزاع.
ويشكل خطاب ليفني أمام منتدى الديمقراطية في الدوحة، عمليًا، امتدادًا لبرنامج بيرس وحلمه بشرق أوسط جديد، يتحول فيه الوطن العربي إلى شرق أوسط جديد خال من النزاعات القومية والإثنية، ويقوم على رأس المال العربي في الخليج، والعقل الإسرائيلي، والعمالة العربية من البلدان العربية والأفريقية الفقيرة، ويكون فيه الصراع بين المعتدلين من جهة وبين المتطرفين من جهة أخرى.
زيارة ليفني هذه تضرب عصفورين بحجر واحد: وزيرة الخارجية الإسرائيلية تحصل على منبر عربي في قطر لاستعراض طروحات إسرائيل المحتلة عن الأمن والرخاء والديمقراطية بمعزل عن الاحتلال وانتهاك حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، والتنكر للاتفاقيات والاستحقاقات الفلسطينية، وبغض النظر عن خرق القوانين والمواثيق الدولية وتدق أسفين فرقة جديد بين العرب وأنفسهم.
نضال وتد
تل أبيب
التعليقات