عندما أحكمت quot;حماسquot; سيطرتها على قطاع غزَّة، إثر عمليَّة عسكريَّة مسرحيَّة، كتبتُ مقالاً بعنوان: quot;غزَّة - التطهير على طريق التحريرquot;. في ذلك المقال، تناولت المخاطر التي ستتعرض لها غزَّة من جرَّاء فعلتها النكراء، وأكَّدت أنَّها ستحمِّل الشعب الفلسطيني أعباء جديدة، وتضيف إلى مآسيه الكثير. وذكرت متسائلاً عن الكيفيَّة التي يمكن لحماس معها أن تقدِّم القوت اليومي والخدمات الأساسيَّة للمواطنين الذين لم يسعفهم الحظُّ في الهرب من الأراضي quot;المحرَّرةquot;! وقلت: quot;وهل كان قادتها يدركون المخاطر التي ترتِّبت على فعلتهم؟quot; وحذَّرت بأنَّ ما أقدمت عليه quot;حماسquot; كان quot;مقدِّمة لكارثة صنعها الفلسطينيُّون بأيديهم.quot; وخلصت إلى أنَّ قادة quot;حماسquot; لا يدركون تعقيدات المخاطر التي قد تترتَّب على فعلتهم. وختمت مقالي ذاك بالتنويه بأنَّ العالم ليس جمعيَّة خيريَّة توزِّع المساعدات والهبات على المحتاجين، وما أكثرهم في العالم العربي، دون النظر إلى هويَّة المتلقِّي والمشرفين على أمره.


لا جدال بأنَّ quot;حماسquot; أثبتت عدم نضج الحركة الإسلاميَّة العربيَّة سياسيًّا، وإن كانت قد برهنت على قدرتها على حشد الشارع وتعبئة مشاعره، والتمكُّن من قيادته بصورة آليَّة في اتِّجاهات صار واضحًا الآن عدم قدرتها على رؤية نهايتها. ولا يعني ذلك أنَّ الحكومات التي لا تتَّخذ من الدين مطيَّة لأغراضها، هي أفضل حالاً أو أحسن تفكيرًا وتخطيطًا. ولأنَّ الأمر يتعلَّق باستخدام الدين وسيلة لتحقيق أهداف سياسيَّة، فهي في ذلك لا تختلف من حيث المضمون عن غيرها من الحركات غير الدينيَّة.


لعلَّنا نتذكَّر الأيَّام التي تلت ما أطلق عليه قادة quot;حماسquot; ومناصروها: quot;التحرير الثانيquot;، وكيف أنَّهم استخدموا شعارات دينيَّة لإقناع أتباعهم والمتعاطفين مع خطِّهم السياسي بأنَّ ما أقدموا عليه لم يكن إلاَّ استجابة لنداء آلهي. و quot;طمأنواquot; الناس بأنَّ الله لن يتركهم دون عون ومدد! لم يقل أحد من هؤلاء الساسة متقمِّصي الدين، إنَّ الله لا ينصر إلاَّ ذوي الحكمة وبعيدي النظر، والذين يملكون القدرة على الارتفاع فوق رغباتهم الذاتيَّة.
الآن، وبعدما انقلب السحر على الساحر، إذ بنا نسمع أنَّ أهالي غزَّة يعانون من آثار الحصار الذي فرضته قوَّات الاحتلال الإسرائيلي! ونشاهد قادة quot;حماسquot; الذين كانوا يفاخرون بانقلابهم وتقتيلهم إخوانهم يطالبون العالم بالعمل على رفع الحصار! فما الذي تغيَّر؟ ولماذا لم يعِ قادة الانقلاب أنَّ الأمور لا تسير بالدعاء فقط، لكنَّها تحتاج إلى تخطيط ودراسة وتدقيق.


قادة quot;حماسquot;، لا يستوعبون أنَّ العالم مليء بتعقيدات وحسابات وغايات. ولم يستوعبوا أنَّ تشابك المصالح أسقط مفهوم السيادة، وجعل الحدود مجرَّد خطوط وهميَّة. صحيح أنَّ الأمر ينطبق أيضًا على العديد من الزعماء العرب الذين يمارسون السياسة الخارجيَّة كما لو كان الأمر متعلِّقًا بخلاف عشائري يمكن حلَّه بلبن الإبل وقطيع من الأبقار! هنا تكمن الكارثة التي تحيق بالأوطان، ولابدَّ من أن يدفع ثمنها الجميع بلا استثناء.


لا خلاف في أنَّ الوقت ليس في مصلحة الشعب الفلسطيني، كما أنَّ سياسة الانفجار السكَّاني ملهاة جديدة، لا أدري كيف يجرؤ شخص عاقل على اعتبارها الحلَّ. الإصرار على ذلك، دليل على عقم فكري أو يأس من التفكير السوي وترحيله إلى قرون قادمة، لا يعلم إلاَّ الله ما سوف تحمله في طيَّاتها.
اليوم، والعالم منشغل بقضايا لا علاقة لها بما يتحدَّث عنه دعاة نظريَّة quot;الانفجار السكَّاني هو الحلquot;، لا أرى كيف يمكن أن يقتنع قادة quot;حماسquot; ومن يؤازرهم من خارج الحدود بأنَّ الفلسطينيِّين يستحقُّون لحظات من السكينة والهدوء، بدلاً من استغراق الوقت في إطلاق الشعارات التي تزيد الحياة المعيشيَّة تعقيدًا، وتفاقم الكارثَّة الإنسانيَّة التي تدركها العين المجرَّدة من الأوهام والسراب.


لا يخالجني شكٌّ بأنَّ العدوَّ الإسرائيلي كان يتحيَّن الفرصة التي قدَّمتها له quot;حماسquot;، إن لم يكن قد مهَّد لها، بإطلاق الصواريخ التي قد تقلق نفرًا من سكَّان المستوطنات، ليواجهه ردُّ الآلة العسكريَّة الإسرائيليَّة الشرس لتسحق كلَّ من يتحرَّك ويتنفَّس في غزَّة. أضف إلى هذا، الحصار الجائر على المواطنين الفلسطينيِّين من سكَّان القطاع الذين دفعوا ثمن العقم الفكري الذي سيطر على عقول نفر من قادتهم.
حاولت اليمن بكلَّ ما تستطيع واهمة من حسن النوايا، أن تعيد سريان دم الحياء في شرايين quot;القادة الفلسطينيِّينquot;، وسعت ما وسعها، لاستكمال ما بدأته السعوديَّة، لكن ذهب كلُّ ذلك هباء منثورًا، فلا حياة لمن تنادي.


أليس الاعتراف بالذنب أفضل من التمادي فيه! اللهمَّ لطفك بعبادك المسحوقين تحت نيران الاحتلال الإسرائيلي، والحماقة والجهل الفلسطينيَّين.

مصطفى احمد النعمان

سياسي يمني