يهدف هذا المقال الى عرض أهم ما جاء في مقابلة الدبلوماسي السويدي ستافن دي مستورا، رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق، مع صحيفة اللوموند الفرنسية والعالمية الشهرة، في عددها 13-14 نيسان (أبريل) 2008، وكذلك الى تبيان نسبية الطابع المهني والموضوعي لوسائل الاعلام الغربي والتي تبنى بعضها المواقف المسبقة ضد العملية السياسية في العراق. وقد أظهرت العديد من الصحف الفرنسية في أكثر من مناسبة الجماعات المسلحة، حتى تلك المتفق على كونها إرهابية لاستهدافها المدنيين، بمظهر ايجابي يدفع القارئ الى التعاطف معها.

بداية، في إجابته على سؤال حول تقييم الوضع الحالي، أكد دي ستورا تحسن الوضع الأمني في العراق حيث انخفض معدل الهجمات بين بداية 2007 وبداية 2008، أي قبل المصادمات الأخيرة، من 322 الى 80 في اليوم الواحد، ولكنه أقر باستمرار حاجة البلد لجهود كبيرة في الميادين الأساسية: المسألة السياسية وحل المنازعات حول تبعية كركوك وغيرها وإجراء الانتخابات والتوزيع العادل للثروات على جميع العراقيين، مضيفاً حول الانتخابات أنها ستكرس تكيف الصدريين وجماعات الصحوة مع العملية السياسية. علماً بأن بعثة الأمم المتحدة في العراق مكلفة، كما ذكّرت الصحيفة، بالمساعدة في تحقيق المصالحة الوطنية وإجراء العمليات الانتخابية وحل المنازعات حول كركوك وغيرها.

لا أتمنى لأحد أن يكون في محله
وجواباً على سؤال اللوموند عمّا إذا كانت الاصطدامات بين الشيعة quot;ستؤدي الى حرب مدمرة جديدة؟quot; (كذا) أجاب دي مستورا بالنفي لأن الصراع مُسيطر عليه وهو لم يلاحظ بوادر حرب أهلية... ثم ذكرت اللوموند، في سؤال آخر، بأن المالكي لم يربح رهانه كما يبدو من الهجوم على الصدريين وبأن ضعف حكومته كان وراء الفوضى الحاصلة، فأجاب بوضوح: quot; لا أتمنى لأحد أن يكون رئيساً للوزراء في العراق، لقد أثبت المالكي قدرته على المواصلة (أي في ظروف بالغة الصعوبة) وعلى شعوره بالمصلحة الوطنية. ويجب علينا مساعدته على إمرار المصالحات السياسية... والتصويت على قوانين تنتظر الصدور، لا سيما قانون توزيع العوائد البترولية وكذلك للقضاء على الفساد...quot; ونلاحظ أن صياغة السؤال تشكل مثلاً على النهج المعادي للتطورات الديمقراطية في العراق، فمن جهة يُراد من رئيس الحكومة التنازل الى الآخرين عن بعض سلطته ومن جهة يتهموه بأن ضعفه سبب الفوضى في البلاد. والمقصود من التركيز على ضعف الحكومة توليد اليأس في نفس القارئ من إمكانية تشكل حكومة قوية في ظل العملية السياسية لتوجيهه الى تقبل الدكتاتورية كحل وحيد ممكن.

ثم جاء سؤال آخر بهذه الصيغة الفاضحة بالنسبة لمنطق دولة القانون السائد في فرنسا: quot;الصدريون والصحوة مليشيات، وأنت عملت في لبنان وتعرف أن من الممكن أن تمارس السياسة مع الاحتفاظ بالسلاح الذي يسمح بتحدي السلطاتquot;، فأجاب دي ستورا على طريقته وذلك بالقول: يجب الاستفادة من الانتخابات المحلية لمنح الفرصة لهذه المجموعات التي تطمح الى تسلم المسؤولية، وإذا فازوا فيها فسيكون عليهم الاهتمام بتنظيف المدن وتزويدها بالماء (الصالح للشرب) وإدارة المدارس... وهذا أفضل من تركهم يمارسون كل ما يعرفون عمله الآن: استخدام السلاح. ولنا أن نستغرب هذا السؤال من صحيفة اللوموند التي طالما بالغت في وصف سوء الأوضاع في العراق مستندة الى وجود الميليشيات المسلحة (وفرق الموت) كمؤشر على تدهور الأمور (بعد سقوط صدام حسين طبعاً...).
ثم إن من حقنا أن نتساءل كيف يُمارس العمل السياسي مع انتشار الميليشيات المسلحة ؟ وفي الحقيقة، لم تخلط هذه الصحيفة الوضع العراقي بلبنان الذي عرف نظام الطوائف والميليشيات منذ تشكيل دولته وهي على كل حال ضد احتفاظ حزب الله بسلاحه في لبنان، بل تأتي هذه الصياغة، في رأيي، من نظرة الصحيفة الى العراق كواحد من quot;جمهوريات الموزquot; ولا يمكن له الاستقرار والازدهار بدون طاغية مستبد مثل صدام حسين. ويساهم بعض السياسيين والاعلاميين الفرنسيين مع الأسف بنشر هذه المقولة، حول ضرورة الحكم القوي في العراق المتعدد الطوائف والأعراق، لتبرير سياستهم مع النظام السابق الذي عانى العراق ودول المنطقة من جرائمه المختلفة.

وأخيراً، بين دي ستورا أن تأجيل إجراء الاستفتاء (حول كركوك) جاء لضرورة تقريب المسافات فيما بين جميع الأطراف لجرها الى موضوعية أكبر في المواقف تفادياً للاصطدام. وجواباً على سؤال حول هجوم الجيش التركي على الأراضي العراقية واحتمال تسببه في اضطراب المنطقة، أكد دي ستورا أنه اندهش للنضج الذي أظهرته الأطراف المختلفة، في بغداد وفي إقليم كردستان وفي تركيا، حيث عرف كل طرف ضرورة مداراة الأطراف الآخرى. quot;وهذا أمر أساسي لأن الولايات المتحدة والأمم المتحدة ستغادران العراق يوماً، أما جيران العراق فأنهم لن يبرحوا المكان...quot;

وهكذا لا ينبغي أن يُنسينا الاتجاه الايجابي للتطورات الحالية ما تتميز به المرحلة من تحديات خطيرة لا زالت تهدد عملية البناء الجارية في العراق، هذه فيما أعتقد رسالة دي ستورا الى العراقيين في هذه المقابلة. علماً بأن قدرة العراقيين على التنازل لبعضهم البعض هي الطريق الذي لا نملك غيره لحل المشاكل العالقة مثل كركوك وقانون النفط وغيرها، وسيظل وجود القوات الأجنبية ضرورياً طالما فشلنا في تسوية الخلافات وفي القضاء سوية على الارهاب وفي ترسيخ دولة القانون.

د. محمد سعيد الشكرجي
باحث أكاديمي

[email protected]