في مثل هذه الأيام من شهر نيسان من كل عام يحي مسيحيو الشرق، وبشكل خاص الأرمن والآشوريونquot;السريانquot; منهم، ذكرى quot;الهولوكست المسيحيquot;ابان حكم السلطنة العثمانية التي افتت، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، بقتل جميع المسيحيين المتواجدين على اراضيها،ولتحقيق ذلك اعلنت في 24 نيسان 1915 quot;الجهاد الاسلاميquot; عليهم.هذا وقد شكل الدور الريادي والبارز الذي لعبه المسيحيون المشرقيون في انطلاق حركات التحرر القومي والوطني لشعوب بلاد الرافدين وسوريا وبلاد الشام ومصر ضد الاستعمار العثماني حافزاً اضافياً لممارسة قادة الاتحاد والترقي وشيوفينتهم على المسيحيين وتنفيذ المذبحة التي وصفها الكثير من الباحثين والمؤرخين، بينهم اتراك، بـquot;التطهير العرقيquot;.فهي تفسر ظاهرة تلاشي المسيحيون من مناطقهم التاريخية، في ارمينا وبلاد ما بين النهرين وسوريا، التي احتفظت بها تركيا.لم يفيد الدولة التركية الحديثة، وريثة السلطنة العثمانية، تنكرها لـquot;المجزرةquot; وسعيها لمحوها من ذاكرة التاريخ.فقد ظلت لعنة مذابح المسيحيين تلاحق الدولة التركية الراغبة في الدخول الى الاتحاد الأوربي واضطرت أخيراً،تحت ضغط المجتمع الدولي الذي يطالبها بالاعتراف بالجريمة والاقرار بمسؤوليتها عنها،لفتح ملف المذابح وان مناورة بحثاً عن مبررات ومسوغات لها،طبعاً من غير ان تعترف بها حتى الآن.
تأتي ذكرى المذابح هذا العام والجرح التاريخي المسيحي يشتد نزفاً ويزادا وجعاً.يستشعر الخطر، على الوجود والكيان والمصير،الآتي من quot;الاسلام المتطرفquot; ومشروعه التدميريquot;دولة الخلافة الاسلاميةquot;.الاسلام المسلح بثقافة الارهاب والموت والقتل من أجل الماضي.ثقافة الحقد والكراهية والالغاء ورفض الآخر وارغامه على العيش كأهل ذمة بأحسن الأحوال أو الرحيل.بدأت تباشير هذا المشروع في العراق الذي اعلن quot;امارة اسلاميةquot; من قبل هذا الاسلام المتطرف.والذي يمارس عمليات تطهير عرقي واجتثاث ديني بحق المسيحيين والأقليات الأخرى الغير اسلامية،كالأيزيد والصابئة المندائيين والشبك وغيرهم.وفي مصر يضطهد المسيحيون الأقباط،رسمياً وشعبياً،مما يشجع المجموعات الاسلامية المتطرفة على قتل الأقباط وخطف الفتيات وحرق الكنائس والممتلكات.ولبنان، المفخخ بالعديد من التنظيمات والمجموعات الاسلامية الارهابية مثل فتح الاسلام التي فجرت نهر البارد، مهدد بـquot;حرب طائفيةquot; جديدة على خلفية تفاقم أزماته الداخلية بابعادها الاقليمية والدولية،سيكون المسيحيون أكبر ضحاياها.قبل ايام صرح الرجل الثاني في تنظيم القاعدةquot;ايمن الظواهريquot; بأن لبنان سيكون له في المرحلة القادمة دوراً محورياً في مقاتلة الصليبين واليهود. ويرى العديد من المراقبين في بيان المطارنة الموارنة اللبنانيين لشهر تموز 2007 والذي اشار الى مشروعquot;اسلمة لبنانquot; ناقوس خطر ليس على مسيحيي لبنان فحسب وانما على مسيحيي الشرق الأوسط عامة.وفي quot;غزةquot; بفلسطين حرق وتدمير مكتبات ومراكز مسيحية وقتل اصحابها. فضلاً عن حوادث مشابهة في دول اسلامية اخرى مثل تركيا والجزائر والصومال والسودان وباكستان وافغانستان وغيرها.
هذه الأوضاع المأساوية في الشرق الأوسط، المرشحة لمزيد من التفاقم والتدهور والانحدار في ظل تأزم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والسياسية والاجتماعية وانتشار بؤر التوتر في المنطقة كاحدى مضاعفات السياسات الامريكية في المنطقة وغزوها للعراق وافغانستان،هذه الأوضاع دفعت بقضية quot;مسيحيي الشرقquot; من جديد الى الواجهة العالمية.فيكاد لا يمر يوماً من دون أن نقرأ مقالاً أو تقريراً أو خبراً في الصحافة العربية أو الاجنبية أو برنامجاً تلفزيونيا يتناول محنة المسيحيين والمخاطر التي تحيط بهم في هذه المنطقة.وفي هذا السياق تنبأت الكاتبة الفرنسية آني لورنت quot; بعد أحداث ايلول 2001،بأن المسيحيين في العالم الإسلامي سيكونون شهداء العقيدة المسيحية التي يؤمنون بها وضحايا العدوان الإسلامي المتطرف عليهمquot;.كما شهدت أكثر من عاصمة ومدينة أوربية وغربية العديد من المؤتمرات والندوات عقدت لذات القضية. منها لقاء خاص في باريس في شهر ايار 2007 نظمه المونسيور فيليب بريزار رئيس quot;مؤسسة الشرق المفتوح الخيريةquot;حضره سبعة من بطاركة الشرق تحدثوا الى مجموعة من رجال السياسة كان من بينهم الرئيس السابق جاك شيراك. وبعده بأشهر اقام ريجيس دوبريه رئيس quot;المعهد الأوروبي لعلوم الأديانquot; وفي باريس ايضاً حضرته وفود المسيحيين الشرقيين جاءوا ليعبروا فيه عن قلقهم على مستقبلهم داخل البلدان العربية والإسلامي.هذا وقد عبر بابا الفاتيكان بنديكتيوس السادس عشر في أكثر من مناسبة عن قلقه وحزنه الشديدين على محنة مسيحيي العراق والشرق الأوسط.وبحسب وكالات الأنباء كانت هذه المحنة من المواضيع البارزة التي ناقشها البابا مع الرئيس بوش في زيارته الأولى لأمريكا في نيسان الجاري.هذه الزيارة كانت مناسبة لتأسيس تجمع خاص للدفاع عن حقوق الأقليات الدينية والقومية في الشرق الأوسط من قبل نواب امريكيون، ديمقراطيون وجمهوريون .هذا الاهتمام الغربي بـquot;محنة مسيحيي المشرقquot;على الرغم من أنه لم يرتق بعد الى مستوى القضية وحجم المشكلة واقتصاره على النواحي الانسانية كتسهيل هجرة المسيحيين الى اوربا وامريكا، ومن غير أن يمارس الغرب أية ضغوط فعلية على حكومات الدول التي يتعرض المسيحيون فيها للاعتداءات، اثار حفيظة العديد من الحكومات والأوساط السياسية العربية والاسلامية.حيث تضع هذا الاهتمام في اطار التآمر الغربي على العرب والمسلمين وتعتبره تدخلاً في الشؤون الداخلية لدول المنطقة تحت ذريعة الدفاع عن حقوق المسيحيين والأقليات الأخرى،مستشهدة بما حصل في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.في مقاربة سياسية موضوعية لأحداث تلك الحقبة من تاريخ المنطقة نرى أن quot;الشعوب العربيةquot; هي أكثر من استفاد من احداثها.فبفضل الجيوش الأوربية تفككت الامبراطورية العثمانية وتخلصت الشعوب العربية من الاستعمار العثماني، الذي حكم المنطقة لاكثر من اربعة قرون باسم الخلافة الاسلامية، وكونت الشعوب العربية دولها الخاصة بها. في حين لم يحصد مسيحيو الشرق(آشوريونquot;سريان/كلدانquot;أرمن، موارنة،أقباط) سوى مزيد من الاضطهادات والمذابح والويلات على ايدي الغزاة الأوربيين والحكومات المحلية معاً.وحرم الآشوريون من اقامة كيانهم القومي في موطنهم التاريخيquot;بلاد ما بين النهرينquot;.يبدو أن التاريخ يعيد نفسه اليوم على الآشوريين في بلاد الرافدين وعلى مسيحيي الشرق عامة.حيث كانوا ومازالوا الضحية الأولى لكل الغزوات التي حصلت عبر التاريخ، من الغزو الروماني البيزنطي الى الغزو العربي الاسلامي مروراً بالغزو الفارسي والعثماني وصولاً الى الغزو الأوربي في القرن الماضي والغزو الأمريكي الغربي الجديد.لامست النخب المسيحية المشرقية المضاعفات الخطيرة لغزو العراق على مسيحيي المشرق.ففي كتاب quot;آخر الهنود الحمرquot; لمهى ياسمين نعمة، توقعت ان يكون مصير المسيحيين في الشرق موطنهم الأصلي كمصير مصير الهنود الحمر في موطنهم الأصلي في اميركا الشمالية ، وعلى يد السلطة الامبراطورية العالمية نفسها.
بغض النظر عن نوايا الغرب- راعي انظمة الاستبداد في المنطقة طيلة العقود الماضية- وأهدافه من اهتمامه الخجول بمحنة المسيحيين والاقليات المضطهدة في الشرق،لا يبرر الصمت العربي والاسلامي ازاء ما يتعرض له المسيحيون في بعض دول المنطقة، خاصة إزاء الوضع المرعب لمسيحيي العراق،معظمهم من الكلدوآشوريين سكان العراق الأوائل، المتروكون لقدرهم يواجهون المجهول.صحيح أن جميع شعوب واديان وقوميات العراق تعاني من عمليات الخطف والقتل ومن مضاعفات الغزو والحرب الأهلية العبثية ومن تقاتل التنظيمات والميليشيات القومية والدينية والمذهبية،الشيعية،السنية،العربية،الكردية، على تقاسم الكعكة العراقية، التي تمسك بها قوات الاحتلال الامريكي. لكن صحيح أيضاً أن المسيحيين العراقيين هم مستهدفون من قبل معظم هذه الميليشيات المتصارعة وهم أكبر ضحايا حروبها،ومن غير أن يكونوا طرفا في هذه الحروب، وانما فقط لمجرد أنهم مسيحيون.الأنكى من الصمت،العربي والاسلامي،الذي يشجع التنظيمات الارهابية على تماديها في ارهابها واعتداءاتها على المسيحيين،هو تهجم بعض الحكومات العربية والاسلامية على المرجعيات والشخصيات المسيحية المشرقية والتشكيك بوطنيتها،تلك التي تشارك في مؤتمرات، اقليمية أو دولية، تدعى لها حول قضية مسيحي الشرق، كما تفعل مصر مع الاقباط.
لا شك، أن النخب المسيحية المشرقية تتطلع الى معالجةquot;محنة المسيحيينquot; كأحدى القضايا الوطنية داخل دولهم ومع حكومات بلادهم وتحت سقف الوطن في اطار وطني ديمقراطي لقطع الطريق امام الخارج الراغب في استغلال وتوظيف هذه المحنة لأهداف ومصالح سياسية معينة.لكن للأسف حكومات دول المنطقة سدت ابوابها أمام أي حوار وطني حول محنة المسيحيين وهي لا تعترف اصلاً بوجود محنة فكيف بها معالجتها.حتى quot;الحوار الاسلامي المسيحي المشرقيquot; الذي انطلق براعية رسمية منها هو يأتي في سياق سياسية التضليل الذي تمارسه هذه الحكومات على شعوبها.فهذا الحوار مازال يقتصر على المسائل اللاهوتية يدور في حلقة مفرغة من غير أن يخوض في الواقع المزري لمسيحيي المشرق وفي تحديد المسؤوليات عن محنهم.فالمهم من هذا الحوار هو أن يشيد كل طرف بسياسة حكومة بلاده ويطلق المديح لها.والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الجدوى والفائدة من quot;الحوار الاسلامي المسيحي المشرقيquot; بينما الشرق يخلو من مسيحييه يوماً بعد آخر.لقد تخلى مسيحيو الشرق،آشوريون وأرمن واقباط وموارنة وعرب، عن الكثير من حقوقهم القومية وخصوصياتهم الثقافية والاجتماعية والدينية وضحوا بها لأجل quot;حقوق المواطنةquot; الكاملة في دولة ديمقراطية ليبرالية. لكن هذه الدولة سقطت بين quot;مطرقةquot;استبداد الأنظمة وquot;سندانquot; الشريعة الاسلامية.هذه الحقيقة السياسية والتاريخية تؤكد على أن قضية المسيحيين المشرقيين ترتبط بشكل اساسي بأيديولوجيا quot;اللامساواة الدينيةquot; التي جاء بها الاسلام. فضلاً عن الآيديولوجيات quot;اللامساواة القومية والسياسيةquot; السائدة في المجتمعات العربية والاسلامية.لهذا فبقاء المسيحيون ووقف نزيف هجرتهم وتعزيز وجودهم وحضورهم في اوطانهم يحتاج،أولاً: الى تخلص شعوب ومجتمعات المنطقة من هذه الآيديولوجيات المنافية للمنطق وللطبيعة الانسانية.ثانياً: احياء مشروع الدولة المدنية الحديثة quot;دولة المواطنةquot; القائمة على فصل الدين عن السياسة والعدل والمساواة.ثالثاً: دول تنتفي فيها سياسة تهميش المسيحيين وتنظر للانسان على أنه قيمة مطلقة وتضع حقوق المواطنة فوق كل الاعتبارات والآيديولوجيات والعقائد، الدينية والقومية والسياسة.في ضوء المعطيات،السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتعليمية، الراهنة في دول المنطقة، لا يبدو أن هذه القضايا ستتحقق على المدى المنظور أو القريب.وهذا يعني بقاء مسيحيو الشرق في مواجهة خيارات صعبة وبقاء خطر الخطف والقتل والتهجير على الهوية يلاحقهم، وقد تشهد المنطقة مذابح وابادة وهولوكستات مسيحية جديدة؟.
سليمان يوسف يوسف
سوري آشوري... مهتم بحقوق الأقليات.
[email protected]
التعليقات