تكاد مقالاتي في موقع ( إيلاف ) تصل الى عتبة الثلاثمائة مقال، كرست جلها للتعبير عن شجون وشؤون العراق الجديد. وقد وجدت في هذا المنبرالإعلامي الحر، فسحة سانحة للحديث عن هموم شعبي ومعاناتهم اليومية مع الأزمات المعيشية والخدمية، بعد أن إفتقدت لسنوات مديدة منبرا كهذا،ما عدا سنوات نضالي بجبال كردستان التي كنت خلالها أستغل ما تيسر لي من وسائل إعلام الثورة لفضح السياسات الدكتاتورية، والتبشير فيها بشمس الحرية التي كنت متيقنا أنها ستشرق على أرض بلدي، وإن طال زمن الإنتظار..
ورغم أن الحرية تحققت ولو نسبيا في بلدي، ولكن للأسف تحول طعمها اللذيذ، الى مرارة في حلوقنا بسبب الهجمة الإرهابية المزدوجة التي تعرض لها بلدي، سواء في الداخل من قبل بعض القوى السياسية، أو من خلال رياح الموت القادمة من الغرب العربي.

كتبت الكثير من المقالات حول الظواهر الجديدة المدانة التي برزت مع التغيير، في مقدمتها الفساد الناهش بجسد بلدي،وكنت أواجه في كثير من الأحيان بعض العتب واللوم، سواء من القراء أو الأصدقاء،بل و حتى من زملائي في المهنة، وهم يعتبون علي بالتركيز الممل على الحديث في الفساد، وكأنه ليس في هذا البلد غير مشكلة الفساد، ورغم إعترافي بأنني قد زودتها حبتين، ولكن من يده النار ليس كمن يمد رجليه في الماء الزلال، وأنا أكتب تلك المقالات، كنت أشعر بداخلي بنار تضطرم، وبغضب عارم يجتاحني كلما رأيت إنتفاخا في حجم الفساد وإستنزاف خيرات هذا البلد من قبل حفنة من أولاد الشوارع العراة الحفاة، فالعراق حسب التقارير الدولية أصبح يحتل رأس قائمة الدول المبتلية بالفساد عن جدارة، وكنت أتمثل بداخلي بالقول المأثور ( قد يجمع المال غير آكله. ويأكل المال غير من جمعه )؟!. فأستعيد في ذاكرتي أيام النضال،وكيف كنا نتقاسم الخبز المدقوق،ونتحمل الجوع والعطش من أجل نيل الحرية، وكيف أصبحنا اليوم،فأقف محزونا مهموما على ما آلت إليه أوضاع هذا الشعب، حيث باتت حفنة من حثالات المجتمع تعبث بمقدرات ومصير هذا البلد، يمعنون فيه فسادا، وينخرون في بنيانها، فلا عزاء لي غير مسك القلم لتعرية هؤلاء الظلمة من أصحاب النعم الجديدة الذين إرتقوا السلالم على أكتافنا. فلا يستكثرن علي أحد ما أكتبه بأحبار الدم.

وأعترف أنه على الرغم من الفساد والظواهر المدانة التي تعصف بهذا البلد،ولكن في المقابل هناك أشياء جميلة نلمسها على أرض الواقع المثقل بمرارته منذ سقوط صنم بغداد. وحديثي في بعض الأحيان عن بعض المظاهر الجميلة،لا يعني طبعا إستسلاما مني، أو تزلفا لأرباب السلطة، فأنا لا تهمني السلطة ومباهجها، كما لا تخيفني ترهيبها ووعيدها، فطالما وجدت حبرا أعبيء به قلمي كتبت عن المظاهر المدانة في السلطة، فإن لم أجد أحبارا، أنزفت الدم من كبدي وعبيت به قلمي لأكتب الى آخر قطرة فيه.

قبل يومين كنت مدعوا الى حضور إجتماع مجلس أمناء الجامعة الأمريكية في السليمانية التي يرأسها الصديق برهم صالح.. كان الإجتماع مكرسا لمراجعة وتقييم الفصل الأول من السنة الدراسية لهذه الجامعة التي تأسست في تموز من العام الماضي، لتكون أول جامعة امريكية في العراق..فأمريكا ليست هي مجرد إمبريالية وفق مقاييس البعض، أو قوة عسكرية عملاقة ترعب العالم حسب بعض الأوساط العربية المتمسكة بالأمجاد الزائفة للأمة العربية، بل هي رائدة أيضا في مجال العلوم والمساعدة في نشرها، والتعاون في بناء المجتمعات الديمقراطية والحضارية في البلدان التي تحتاجها.. وأمريكا مثلها مثل جميع أنظمة الحكم في العالم، لها مساوئها وحسناتها، فلها وجه الكاوبوي الوقح، يقابله وجه ديمقراطي جميل، ولو قارنناها على سبيل المجاز بالإنسان، الذي خلق الله فيه نوازع الخير والشر، فإن أمريكا لا تخلو من هذه الصفة أو القاعدة المألوفة عن البشر، وهناك دائما فرصة لمن يسعى للإستفادة من الجانب الخيرفيها، أومن يريد أن يستفيد من تجربتها الديمقراطية الرائدة في العالم الحر..

لسنا هنا في مجال الدفاع عن أمريكا، أو تجميل صورتها الراسخة في أذهان الشعوب والأمم، فالأساس في هذا المقال هو صورة للعراق المصغر رأيته داخل إحدى القاعات الجانبية لإجتماع مجلس أمناء الجامعة الأمريكية في السليمانية..
فبعد إنتهاء الإجتماع تجمع المشاركون فيه داخل تلك القاعة.. بينهم، الرئيس مسعود بارزاني ونائبي رئيس الجمهورية طارق الهاشمي وعادل عبدالمهدي، وكان هناك أياد علاوي، والسفير كروكر،وكوسرت رسول وعدنان المفتي وعبدالرحمن الراشد ورند الرحيم وغيرهم، وكان برهم صالح الداينمو الذي يحرك الجميع..
كنت جالسا في زاوية بالقاعة صامتا أتابع تلك المشاهد الماثلة أمام ناظري.. كان برهم يتنقل بين الحضور بوجهه الباسم المعهود. يمازح هذا، ويداعب ذاك.. يستقبل القادم بإبتسامة مريحة، ويودع المغادر بإبتسامة بشوشة..
كان علاوي يقف مع عبدالمهدي يتجاذبان أطراف الحديث، والهاشمي يجلس الى جوار المفتي يتحاوران، ثم يجتمع أقطاب السياسة العراقية في حلقة صغيرة، وتسمع بين لحظة وأخرى ضحكات منسابة، لا تملك مع سماعها إلا الإطمئنان على مستقبل العراق الخالي من العنف والإرهاب..

إلتفتت الى الزميل ستران عبدالله وقلت له: أنظر كيف يتواددون، من يرى أنيابهم المكشرة في القنوات الفضائية قد يتصور أنه لا نهوض للعراق بعد صدام حسين، وها أنت تراقب أحاديثهم الودية، أعتقد أنه لولا هذا الإرهاب الوضيع، ولولا هذه المشاكل التي تعصف بالعراق بسبب الفساد والخارجين على القانون، لكانت هناك تجربة في العراق تغير وجه التاريخ في منطقة الشرق الأوسط quot;. علق ستران قائلا quot; صدقت.. فإتسقت آرائنا حول مستقبل العراق..

في تلك اللحظة تذكرت أنه بعد يومين سيمثل نائب رئيس الوزراء العراقي الأسبق طارق عزيز أمام المحكمة الجنائية العليا بتهمة المشاركة في مذبحة تجار بغداد عام 1992..
لا أدري لماذا عقدت مقارنة في ذهني بين الرجلين، طارق عزيز وبرهم صالح، وهو أيضا كان نائبا لرئيس الوزراء، وشتان بين الاثنين..

برهم صالح كردي، يجمع القيادي السني والشيعي تحت سقف بيت طالباني، ويفسح مجالا للشيوعي السابق، وللعلماني المتنور والإسلامي المستنير، وطارق عزيز عربي مسيحي كان ينسق مع مخابرات نظامه لملاحقة الشيعي والسني، وإعدام الشيوعي، وإبادة الشعب الكردي..

برهم صالح يترأس اللجنة الإقتصادية في العراق فيستميت من أجل إصلاح البنية الإقتصادية، ويبذل أقصى جهوده الداخلية والخارجية لنقل العراق الى مصاف دول منظمة التجارة العالمية، ويشترع العديد من القوانين الميسرة لتطور التجارة والإقتصاد في البلد، وطارق عزيز يجمع أسماء تجار بغداد ليسهم مع جلاوزة نظامه في إعدام 40 من كبار تجار البلد بتهمة تجاوز السياسة الإقتصادية للنظام الشمولي المنغلق العفن؟!.

برهم صالح يجمع قادة العراق ليستجديهم التبرعات لإحياء البنية العلمية في العراق عبر هذه المؤسسة غير الربحية التني تعمل لرعاية وتنمية الكفاءات العراقية خصوصا من أبناء الطبقات المسحوقة في المجتمع، فيصرح أمام جميع القنوات الإعلاميةquot; أن أبواب الجامعة مفتوحة لإحتضان جميع أبناء العراق والمنطقة لتلقي العلم والمعرفة، وإعداد قادة المجتمع منهم، وطارق عزيز يلاحق نظامه الكفاءات العراقية ويشردها في منافي الأرض ومهاجرها، فيصبح شريكا في جريمة تدمير البنية العلمية، وقد قالت العرب ( إذا جارَيْتَ فى خُلُقِ دنيئاً، فأنت ومن تُجَارِيْهِ سواءُ ).

وأنا أتابع تحركات برهم صالح وسط تلك القاعة الصغيرة، وأنشرح لضحكاته وإبتسماته الموزعة على قادة العراق، أستذكر في ذهني حال طارق عزيز، ووجومه الآن وهو يستعد لمحاكمة قد تؤدي به الى حبل المشنقة..

ولعل هنا يكمن الفرق بين عراق الأمس، وعراق اليوم...

[email protected]