الملف الجنائي الذي يحاكم بموجبه نائب رئيس الوزراء العراقي السابق طارق عزيز حاليا في قضية إعدام عشرات من التجار العراقيين عام 1992 ضمن وجبة من المتهمين ضمت مسؤولين أمنيين سابقين من أمثال وطبان و سبعاوي الحسن و علي كيمياوي و عبد الحميد حمود السكرتير الشخصي السابق لصدام حسين يحمل من عناصر الغرابة الشيء الكثير، فالإتهام لا يتناسب إطلاقا مع طبيعة المهمة التي كان يقوم بها طارق عزيز في مؤسسة النظام العراقي السابق وهي مهمة حزبية محضة ذات جوانب ثقافية في البداية ضمن جهاز التثقيف الحزبي ثم إعلامية ضمن مؤسسات وزارة الإعلام العراقية التي يعتبر طارق عزيز واحدا من أبرز وجوهها على المستوى العربي، فالرجل بصرف النظر عن كل شيء كان يمثل واجهة سياسية و إعلامية لنظام البعث العراقي و كان معروفا على المستوى القومي بدءا من أقاصي المغرب و حيث نسج علاقات مهمة للغاية مع الأحزاب الوطنية و اليسارية المغربية كجماعة الإتحاد الإشتراكي و جماعة محمد آيت يدر و مع السلطة المخزنية المغربية في نفس الوقت و كان تصريحه الشهير و نظرته للإعلام من خلال مقارنته بين قيمة و سعر دبابة و تمويل الإعلام المؤيد و المساند يمثل النظام الأساسي و التوجه الستراتيجي لنظام البعث العراقي الراحل، فكان طارق عزيز من كبار المانحين للكثير من وسائل الإعلام العربية التي رسمت وجها باسما و مشرقا للنظام العراقي لدى الشعوب العربية، كما كان المتحدث الرسمي و الدائم بإسم النظام العراقي لوسائل الإعلام و محطات التلفزة الدولية و خصوصا الفرنسية و الأميركية و خلال سنوات الحرب العراقية / الإيرانية إستطاع أن يدافع عن ملفات نظامه و أن يرسم خيوط ستراتيجية مهمة لتشكيل علاقات عمل حقيقية مع إدارة الرئيس الجمهوري الراحل رونالد ريغان في أوج سنوات إندلاع الحرب العراقية / الإيرانية بل دخل البيت الأبيض في عام 1988 و أتذكر أنه عندما قصفت الطائرات الحربية العراقية المدمرة الأميركية ستارك في شمال الخليج العربي و قتلت أكثر من 37 عسكريا أمريكيا لم تمتعض الإدارة الأميركية بل جاء الإعتذار من طارق عزيز بقولته المشهورة:
It was mistake!!!
و إنتهى الأمر عند ذلك الحد و ذهب الجنود الأمريكان ضحية لخطأ عسكري عراقي ربما كان مقصودا أم لا المهم أنه حدث، لذلك فإن طارق عزيز في مهامه الدبلوماسية العديدة و التي بلغت الذروة مع قضية غزو دولة الكويت و جولاته الدبلوماسية الماراثونية و التي كات أشهرها لقاء الفرصة الأخيرة في جنيف في التاسع من يناير عام 1991 أي قبل أيام من حرب تحرير الكويت وهبوب عاصفة الصحراء و المباحثات الواسعة و العويصة مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر كان منت الإنشغال بحيث يصعب التصور أنه يحمل هموم و ملفات أمنية داخلية لا علاقة له بها و بمفرداتها من قريب أو بعيد خصوصا و أن ذلك الملف كان من إختصاص الحلقة الداخلية المحيطة بصدام حسين وهم من العائلة أو أقرب المقربين و ليس من ضمنهم عزيز بالطبع الذي إصطفاه صدام حسين شخصيا و فضله على الكثير من قدامى البعثيين و بالضد تماما من إرادة الرئيس العراقي السابق أحمد حسن البكر الذي لم يكن يخفي عدم إرتياحه بل كراهيته لطارق عزيز لأسباب عديدة بعضها خاص و عائلي جدا لا نرى من المناسب توضيحه في هذا المقال العابر، و لكن كانت لصدام حسين حساباته الخاصة في إختيار معاونيه، و طارق عزيز رغما عن كل شيء هو أحد أبناء مؤسسة حزب البعث و لعب دور في الصراع على السلطة بعد الإنقلاب على اللواء عبد الكريم قاسم عام 1963 و كان شاهدا على الإنشقاق الكبير الذي أطاح بسلطة الحزب في خريف ذلك العام لصالح مجموعة الضباط القوميين بقيادة المرحوم الرئيس عبد السلام عارف الذي كان يتهكم على طارق عزيز و يصفه ب ( نزاح المراحيض )!!، كما أن طارق عزيز أعتقل في سجن الحلبوني الحزبي في دمشق عام 1966 بعد هروب قريبه الضابط العراقي الطيار منير روفا لإسرائيل و تسليمه طائرة ميغ روسية للإسرائيليين!! ثم أطلق سراحه بعد هزيمة الخامس من حزيران عام 1967 ليعود للعراق و ليدخل السلطة بعد هيمنة صدام عليها و تسلله لمساربها عام 1969 و بعد أن تم إبعاد العديد من القياديين البارزين في حزب البعث ومن بين جميع المسؤوليات الحزبية و الإعلامية و الدبلوماسية التي تقلدها طارق عزيز لم تكن من بينها أي مسؤولية أمنية و لم يعرف عنه أي دور في أقبية التعذيب السرية كما هو حال العديد من الرفاق السابقين و أبرزهم محمد سعيد الصحاف الذي لعب دورا إجراميا كبيرا في جريمة أعدام العديد من السياسيين و المعارضين العراقيين في قصر النهاية في يناير / كانون الثاني عام 1970 وهي الجريمة المنسية التي لم يسأل لا الأمريكان و لا النظام العراقي الذي جاء بعد إنهيار النظام السابق الصحاف عنها أبدا بل أنه يعيش اليوم لاجئا و سعيدا على ضفاف الخليج العربي الساحر بعد أن أفلت من جرائمه التاريخية الشنيعة!! ومحاكمة طارق عزيز على مسؤولية النظام الصدامي عن إعدام التجار العراقيين يمكن إعتبارها مهزلة حقيقية لأن عزيز يملك معلومات غاية في الأهمية عن شبكة العلاقات الدولية والعربية للنظام السابق لم يقدر لها أن تظهر للعلن بينما يحاكم ببلاهة عن تهمة يستطيع نفيها بسهولة رغم مسؤوليته كعضو قيادي في مجلس قيادة الثورة السابق وهي مسؤولية إعتبارية تشمل الجميع و لا تختص به وحده فمسؤوليته الحقيقية تتمحور حول العلاقات الوثيقة التي كانت تربط العديد من الدوائر في الغرب بالنظام العراقي وحيث تخلت عنه تلك الدوائر بعد أن إستغلته لأبعد الحدود، فلعبة الأمم لا تعرف الرحمة أبدا.. المحاكمات الحالية بائسة ككل شيء بائس في عراق الفشل العظيم، فلا شيء لخدمة الحقيقة و التاريخ أبدا بل أن كل الجهود مكرسة للإستعراضات الفارغة.
داود البصري
التعليقات