تفجرت يوم الأحد الماضي قضية الجريمة البشعة التي ارتكبها نمساوي بحق ابنته، والتي قام فيها باختطافها وحبسها لمدة 24 سنة في قبو بالمجمع السكني الذي تعيش به العائلة، وقام خلالهذه السنوات الطويلة بالاعتداء عليها جنسياً ما أسفرعن انجابها سبعة أبناء تراوحت أعمارهم ما بين 5 سنوات و19 سنة. جاءت الجريمة كالصاعقة على رأس الأوروبيين الذين يفخرون بحضارتهم التي تقدس مباديء حقوق الإنسان وتحترام حقوق المرأة والطفل، فعقدت صدمة قسوة الجريمة ألسنتهم وأصابت عقولهم بالشلل. وربما لم تصدم جريمة فردية الأوروبيين من قبل بقدر ما صدمتهم تفاصيل جريمة قبو الرعب التي استمرت نحو عقدين ونصف من دون أن تنكشف خيوطها للسلطات النمساوية. ولا شك في أن أسئلة كثيرة تثار الأن حول الدور الذي لعبه السلوك الاجتماعي لجيران المنزل الذي وقعت به الجريمة في طول فترة أحداثها المأساوية. وعلى الرغم من الأسئلة الكثيرة التي تثيرها غرابة الجريمة والتي تدفعني للتعامل بحذر مع التفاصيل الدقيقة لجريمة الاختطاف التي تنقلها لنا وكالات الأنباء، إلا أن تأثير أنباء الجريمة على السلوك الاجتماعي للأوروبيين الذي اتسم في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية بالفردانية والانسحاب الاجتماعي سيكون من دون شك كبيراً.

بعيداً عن كيفية تنفيذ جريمة الاختطاف الطويلة وكيفية احتفاظ الأب بسر جريمته طوال السنوات الأربع والعشرين على الرغم من أن مسرح الجريمة يقع في شارع مزدحم من مدينة أمشتيتين النمساوية، فقد كان الاعتداء الجنسي للأب، الذي يبلغ الثالثة والسبعين من عمره على ابنته التي تبلغ الثانية والأربعين، واستخدامه لها كأداة لمتعة غريزته وملذة شهوته منذ بلغت الأبنة الحادية عشرة من عمرها جريمة وحشيةً يندى له جبين الإنسانية. لا تعد جريمة الاعتداء الجنسي على النساء والأطفال بغريبة على المجتمع الإنساني، فقد ظهرت جريمة الاعتداء الجنسي على النساء والأطفال منذ وعت البشرية على الفارق البيولوجي بين بني أدم وبنات حواء. تعتبر الجريمة من القضايا الخطيرة التي تواجه المجتمع الإنساني في القرن الحادي والعشرين.، فالدراسات والأبحاث تشير إلى انتشار هذه النوعية من الجريمة على نطاق واسع في مجتمعات الدول المتقدمة، حيث يتم في الكثير من الأحيان الكشف عن بعضها بينما يتم في بعض الحالات التستر على المجرمين والضحايا لظروف اجتماعية أو اقتصادية.

تقدر منظمة الصحة العالمية أن 150 مليون فتاة و 73 مليون صبي تحت سن الثامنة عشرة عانوا من علاقة جنسية قسرية أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي في عام 2002. ويقر تقرير أعده خبير مستقل أوكلته منظمة الأمم المتحدة بإجراء دراسة بشأن العنف ضد الأطفال بتزايد العنف الجنسي ضد الأبناء في المنزل. ويوضح استعراض عام لدراسات أجريت في 21 بلدا معظمها من البلدان متقدمة النمو على أن أشخاصا تراوحت نسبهم بين 7% و 30% وسط النساء و 3% و 29% وسط الرجال أبلغوا عن وقوعهم ضحية للاعتداء الجنسي أثناء مرحلة الطفولة. ويشير التقرير على أن غالبية الدراسات توصلت إلى أن البنات تساء معاملتهن بمعدلات تتراوح بين 1.5 و 3 مرات قدر معدلات الذكور، مؤكداً على أن معظم حوادث الاعتداء تقع داخل إطار الأسرة. وتدل دراسة تشمل بلدان متعددة أجرتها منظمة الصحة العالمية، من ضمنها بلدان متقدمة النمو وأخرى نامية، على أن نسبة تتراوح بين 1% و 21% من النساء أبلغت عن التعرض للاعتداء الجنسي قبل سن الخامسة عشرة، بواسطة ذكور من أفراد الأسرة.

وقال التقرير الذي أعده باولو سيرجيو بنهيرو وقدمه الأمين العام للأمم المتحدة لأعضاء الجمعية العامة في أغسطس 2006 أن الأطفال ابتداء من طفولتهم الباكرة وحتى سن 18 سنة، يكونون عرضة لأشكال مختلفة من العنف داخل منازلهم. ويختلف مرتكبو هذا العنف باختلاف المرحلة العمرية، ووفقا لدرجة النضج لدى الضحية، وهم يشملون الوالدين، وأزواج الوالدين، والوالدين بالتبني، والأخوة والأخوات، وأفراد الأسرة، والقائمين بالرعاية. كما أشار التقرير إلى ان الأطفال يتعرضون للعنف الجنسي والاستغلال من جانب أفراد المجتمع، حيث يرتكب العنف الجنسي بشكل أكثر شيوعا من جانب شخص معروف للطفل مثل أفراد الأسرة أو كبار يتمتعون بالثقة مثل المدربين الرياضيين ورجال الدين والشرطة والمدرسين وأرباب العمل. وقال التقرير أن عدم وجود حد أدنى مثبت قانونيا لسن الزواج وممارسة الجنس بالتراضي في بعض البلدان إلى تعرض الأطفال للعنف على يد شريك الحياة، إذ يقدر أن 82 مليون فتاة يتزوجن قبل بلوغ الثامنة عشرة، ويتم زواج عدد كبير منهن في أعمار تقل عن ذلك كثيرا، وبصورة قسرية في أحيان كثيرة، ليواجهن الكثير من مخاطر العنف بما في ذلك ممارسة الجنس قسرياً.

من العبث والسذاجة القول بأن جريمة الاعتداء الجنسي على النساء والأطفال تقتصر على مجتمعات بعينها أو أن هناك مجتمعات محصنة ضد العنف الجنسي. تقول الدراسات والأبحاث الدولية بهذا الشأن أن الجريمة تنتشر في معظم المجتمعات الغربية والشرقية، الغنية والفقيرة على السواء. وإذا كانت معظم المجتمعات الغربية تتبع أسلوباً منفتحاً في التعاطي مع حالات الاعتداء الجنسي، فإن المجتمعات الشرقية تتكتم على معظم حالات الاغتصاب والاعتداء الجنسي على النساء أو الأطفال ربما بسبب الرغبة في الحفاظ على الوضع الاجتماعي للضحايا والعائلات، وربما بسبب الخوف من الانتقام أوالعقوبة حيث تقول الاحصاءات بأن نحو 1200 حالة ما يسمى بـquot;قتل الشرفquot; تمت في عام 2032 في باكستان، وأخيراً ربما بسبب الجهل بكيفية معالجة الاعتداءات الجنسية بصورة تتفق مع المباديء والقوانين الدولية التي ترعى بقوة حقوق المرأة والطفل. وتؤكد الدراسات المهتمة بحالات الاعتداء الجنسي على المرأة والطفل على أن حالات الاعتداء الجنسي في المجتمعات المغلقة لا تقل، إن لم تزد، عن مثيلتها في المجتمعات المفتوحة.

للتدليل على فرضية أن المجتمعات المنغلقة تعاني مثل المجتمعات المنفتحة من وطأة جريمة الاعتداء الجنسي، لابد أن نشير إلى الدراسات التي أجريت حول معدلات هذه الجريمة في هذه المجتمعات. فإذا ما اخترنا المجتمع الفلسطيني كنموذج للمجتمعات المنغلقة، نجد أن الدراسة التي أعدها كلا من البروفيسور محمد حاج يحي وصفا تاميش، ونشرت بتقرير quot;الاعتداء على الطفل والجهلquot; الذي أصدره quot;المجتمع الدولي لمنع الاعتداء على الطفل والجهلquot; عام 2001، قد أكدت على الارتفاع المذهل في معدلات العنف الجنسي في المجتمع الفلسطيني. وكشفت الدراسة المعنونة quot;معدلات الاعتداء الجنسي على الطفل وأثاره النفسية كما تكشفها دراسة بين تلاميذ المرحلة الجامعية الفلسطينيينquot; عن أن 19% من تلاميذ المرحلة الجامعية بالأراضي الفلسطينية الذين شملتهم الدراسة تعرضوا لما لا يقل عن حادث عنف جنسي من أحد أفراد العائلة قبل بلوغهم السادسة عشرة، كما أن 36.2% من التلاميذ، بنسب متساوية بين الفتيان والفتيات، أقروا بتعرضهم لما لا يقل عن حادث اعتداء جنسي من أحد الأقارب.

على جانب أخر، إذا ما اخترنا المجتمع الأمريكي كنموذج للمجتمعات المنفتحة نجد أن الإحصاءات الأمريكية تشير إلى تعرض واحدة من كل ستة نساء أمريكيات لمحاولة اغتصاب، بما يعني أن نحو 17.7 مليون إمرأة وفتاة أمريكية تعرضن في مرحلة من حياتهن لمحاولة اغتصاب. وتكشف الاحصاءات المتعلقة بالاعتداءات الجنسية على الأطفال التي تنشرها شبكة الاغتصاب والانتهاك الجنسي القومية الأمريكية عن أن 15% من ضحايا الاعتداءات الجنسية والاغتصاب يكونون تحت الثانية عشرة من عمرهم، وأن 29% منهم بين الثانية عشرة والسابعة عشرة. وتقول الشبكة الامريكية أن الفتيات اللائي تتراح أعمارهن بين السادسة عشرة والتاسعة عشرة عرضة للاعتداء الجنسي بنسة تفوق المعدل القومي بأربعة أضعاف. وفيما يتعلق بشخصية الجناة، تؤكد الشبكة على أن 38% من الاعتداءات تتم بواسطة أصدقاء، 28% يتم تنفيذها بواسطة أصدقاء حميمين، و7% تتم بواسطة أقارب. وتشير الإحصاءات الأمريكية إلى أن أربعة من كل عشرة اعتداءات تتم في منزل الضحايا، واثنين من كل عشرة يتما في منزل صديق أو جار أو قريب، واعتداء واحد من كل اثني عشر اعتداء يتم في موقف السيارات. وتلقي احصاءات وزارة العدل الأمريكية المزيد من الضوء على الجناة فتشير إلى أن متوسط الأعمار هو 31 عاماً، وأن 22% منهم متزوجون، وأن جاني من كل 3 جناة يكون تحت تأثير الكحول أو المخدرات، وأن 11% من الاعتداءات عام 2001 تمت تحت تهديد السلاح، وأن 46% من الجناة الذين افرج عنهم عام 1994 تم اتهامهم في قضايا أخرى كالعنف والمخدرات والإخلال بالنظام خلال 3 سنوات من الافراج عنهم.

أرقام ونسب ومعدلات جريمة العنف الجنسي ضد النساء والأطفال التي تؤكدها الدراسات تشير إلى عمق الأزمة التي يواجهها المجتمع الإنساني في الشمال الغني والجنوب الفقير. لا يبدو أن القانون وحده أصبح كافياً لمواجهة الجريمة. فبعدما غابت القيم عن عالمنا واختفت المباديء من مجتمعاتنا وانتشر الجهل بين شعوبنا وكثر العنف في زمننا وازداد الفقر من حولنا أصبح من الضروري أن تتكاتف قوى كثيرة ثقافية واجتماعية ودينية للمشاركة مواجهة الجريمة التي تهدد عشرات الملايين من النساء والأطفال حول العالم. ولقد أوضحت الدراسات الطبية والنفسية التي أجريت على ضحايا الاعتداء الجنسي مدى معاناتهم من نتائج الجرائم التي ترتكب بحقهم، فأثبتت أنهم عرضة للانتحار للاكتئاب والانهيار العصبي وعدم الاتزان العاطفي والاجتماعي والإدمان بسبب تجاربهم المريرة مع الانتهاكات التي يتعرضون لها.

لا شك في أن القضية تعد واحدة من القضايا المعقدة التي عجزت الإنسانية عن معالجتها عبر العصور. لم تكن جريمة اعتداء الذئب النمساوي على ابنته الأولى من نوعها على المستويين الأوروبي والعالمي. وإذا كانت تفاصيل أحداث جريمة قبو الرعب قد هزت أساسات المجتمع الغربي، فإنه لا ينبغي إغفال أن أي اعتداء جنسي على النساء والأطفال لا يقل عن الجريمة النمساوية في البشاعة والتجرد من الإنسانية. وإذا كانت بشاعة جريمة قبو الرعب قد تسببت في إحداث شرخ في وجدان المجتمع الغربي، فإن من المؤكد أن مجتمعات دول العالم الثالث، التي تستعبد المرأة وتستخف بالطفل بسبب حكم القبلية وسيطرة العادات والتقاليد المتخلفة، تشهد من الجرائم الجنسية ما يتسبب في تدمير المرأة نفسياً وعاطفياً. من سخرية الأقدار أن قبو الرعب النمساوي الذي لم يعرف هو أو سكانه الضوء الطبيعي يقوم الأن بتسليط الأضواء بشدة على جريمة الاعتداء الجنسي على النساء والأطفال أو جريمة كل العصور أو الجريمة التي تضع الإنسان في مرتبة الحيوان.


جوزيف بشارة
[email protected]